مفارقة المكوث والرحيل في المكان

ثقافة 2023/10/29
...

  د. سعد عزيز عبد الصاحب

 رحيل جليل القيسي (1937 ـ 2006) يشبه بحق سمفونيَّة ناقصة أو سقوطَ قطعة نادرة من موزائيك مدينة كركوك التي تلخصُ عراقاً مصغراً لن يستطيع أن يملأ فراغها أحد، وانعكست تلاوين هذا التنوع على أسرته وتعدديتها، إذ نجد فيها العربي والكردي والأرمني، كذلك شأن أدبه الذي حفر في السرد القصصي والدرامي (المسرحي) معاً بمبان حداثيَّة وتجديديَّة سبقت زمنها وهو في الكتابة للمسرح راح يبحث ويأخذ شخوصه من المشترك والأممي الإنساني الواسع فمن (جيفارا عاد افتحوا الأبواب) الى (الليلة الأخيرة للوركا) واستلهاماته السرديَّة والدراميَّة لـ (دوستيوفسكي) و(شكسبير) و(كافكا) وحواره الحضاري والثقافي معهم.

استفاد القيسي من تمكنه واستيعابه للغة الانكليزيَّة والقراءة بها في فهم التيارات الحديثة الأوروبيَّة كمسرح اللامعقول والعبث والمسرح الملحمي من مراجعها الأصليَّة بوقتٍ مبكرٍ موظفاً المتون الدراميَّة والتقنيات والآليات السرديَّة العالميَّة في مسرحه، لذا نرى أدبه متعالياً عميقاً يحتاج الى وعيٍ استثنائيٍ لقراءته وتفكيك رموزه.

كان القيسي مركزاً ومكثفاً في اللغة واستعارياً مشفراً بامتياز فجاء بناؤه لمسرحياته أفقياً لا أرسطياً يعتمد خطاباً إسقاطياً وتضمينياً على الوقائع الحاضرة، يقول الأديب جلال زنكبادي في مقالة له نشرت في مجلة (الصوت الآخر) الأربيليَّة ما نصه: (إنَّ جليل القيسي قام لتحقيق حداثته المنشودة بتحطيم حيثيات وأطر السرد التقليدي المألوف بسرده البديل الذي سماه (السرد الامبراطوري) محطماً عبره وحدتي المكان والزمان الأرسطيَّة التقليديَّة بتراتبيتها المعروفة بداية ووسط ونهاية، حالَّاً محلها الزمن المتواشج مع سايكولوجيَّة الشخصيات في وحدة زمكانيَّة جدليَّة) بآليَّة المونتاج والتقطيع الزمني والمكاني السينمائي، ولننتبه لمفهوم (السرد الامبراطوري) الذي اشترعه القيسي حاملاً في طياته محمولات التعالي السردي والرمزيَّة والتشفير واللعب على مديات الزمن بتأثير أدبي (كولونيالي) واضحٍ مشربٍ بالروح اليساريَّة الثوريَّة مستنطقاً المسكوت عنه في ثقافة ما بعد الاستعمار، تلك المدونات التي لا تنسجها سوى القرائح العارفة والعالمة بحراك الأدب وصيرورته وحداثته في عصرها، فيقولون عنه وعن جماعته «جماعة كركوك» ذائعة الصيت بأنهم يكتبون مثل الانكليز. ولِمَ لا طالما هم يجارون عصرهم بل يتفوقون عليه وعلى مجايليهم وهم لم يذهبوا بعيداً في الآفاق ولم يدرسوا الأدب في جامعات كامبردج واكسفورد، إنما مكثوا في جغرافيا مدينتهم الصغيرة.

يختار القيسي أماكنه في مسرحياته التي عادة ما تكون ضيقة وكئيبة الى درجة الاختناق، فهي إما زنازين حشر فيها عددٌ من المساجين، أو محطات (مترو) تحت الأرض مكتظة بالبشر أو بيت قديم تسكنه امرأة وحيدة، الميزة التي ينبغي الإشارة إليها أنَّ القيسي يقدم معادلاً موضوعياً للتخلص من الضيق المكاني عن طريق الحوار الذي يكون عميقاً ودالاً وسلساً ومشفراً في أحيانٍ للتعويض عن الاختناق الذي تتعرض له الشخصيات.

ومن الجدير بالذكر أنَّ معظم حبكات مسرحيات القيسي تتشابه مع بعضها تشابهاً كبيراً في إثارة عنصرين اثنين هما (الانتظار) و(الحلم) ومعالجتها معالجة سرديَّة؛ أي قصصيَّة غير دراميَّة ويغلب عليها الطابع (المأساوي) (الكافكوي) العدمي وأحياناً الميلودرامي كأنها مسرحيات (تشيخوف) أو (مترلنك) في (المسرح الساكن) كما في مسرحيات القيسي (الأبناء الذين يعودون الى الوطن) و(شفاه حزينة) و(غداً يجب أنْ أرحل) و(خريف مبكر) و(ربيع متأخر) و(غرقوا في رائحة الظلمة) و(ها نحن نتعرى) و(مرحباً أيتها الطمأنينة) و(فراشات ملونة) وقيض لبعض هذه المسرحيات العرض والنجاح في تقديمها على خشبة المسرح إذ تصدى المخرج والممثل المعروف (عزيز خيون) لإخراج نص (مرحباً أيتها الطمأنينة) في منتدى المسرح ببغداد وشارك فيها في مهرجان قرطاج المسرحي في تونس عام 1992، وقدم نص مسرحيَّة (جيفارا عاد افتحوا الأبواب) على خشبة فرقة المسرح الفني الحديث في نهاية السبعينيات.

حدثت تحولاتٌ بِنْيويَّة في نسق الكتابة الدرامي لدى جليل القيسي فنبرة الثوريَّة والمكاشفة والبوح كانت هي السائدة في خطاب القيسي خلال السبعينيات حيث التأثر بنضال (جيفارا) ضد الامبرياليَّة والرجعيَّة وفواعل الثورة الكوبيَّة والعلاقة الدراماتيكيَّة بين المثقف والسلطة من منظورٍ (ماركسي) لتأخذ كتاباته في الثمانينيات نسقاً آخر ينحو نحو التشفير والترميز في اللغة والإحالة الى جغرافيات وأماكن أخرى بديلة بتقنيَّة الإسقاط خلاصاً من سلطة الرقيب الأدبي الرسمي، فقلَّ نِتاجُه الأدبي في التسعينيات كثيراً وأخذ يرنو بنفسه نحو العزلة والابتعاد عن الملتقيات الأدبيَّة والثقافيَّة والفنيَّة، ولم تكن العزلة سمة طارئة أو دخيلة على روح القيسي ووجدانه، إنما كانت جزءاً من ميكانزمه التكويني الخاص حيث يقول: (أكثر من ثلاثين عاماً وأنا في شرنقة العزلة، لقد ضربتها حولي بطريقة دراميَّة مشوبة بالساديَّة، أشك أنْ تستطيع أي قوة أنْ تحررني منها، لأنها أصبحت فردوسي.. للعزلة قداسة غريبة، إذا ما عرف الإنسان كيف يتمدد على صليب معاناتها.. العزلة تهبُ شحنات من القوة الديناميكيَّة لشعور وللاشعور الإنسان.. في العزلة أتسلم نداءات دافئة عن العالم).

والراحل جليل القيسي في عزلته في كركوك شأنه شأن بعض أدباء البصرة العازفين عن استبدال مدينتهم بإغراءات العاصمة، وأقرب توصيفٍ وَشبه لعزلة القيسي عزلة الشاعر البصري الراحل محمود البريكان، فهما يشتركان بالنفاذ الروحي ذاته في امتلاك المكان الأليف وجوهره وكلاهما في حيزٍ ضيقٍ واحدٍ بعيدٍ عن الأضواء الساطعة

 وبهرجتها.

ومن المهم الإشارة الى أنَّ سيرة القيسي في ضوء كلام الذين عرفوه أنموذجُ المثقف المتواصل والناكر لذاته في رعاية الأصدقاء والشباب المحتاجين عونه الأدبي وتوجيهه، وفي الظن أنَّ التزامه الأخلاقي يرتبط بخياره اليساري الذي بقي يطلُّ برأسه في قصصه ومسرحياته المنشورة على الرغم من طموحه في تجاوز الأطر الأيديولوجيَّة في الكتابة بالانفتاح نحو الأممي والعالمي من دون التغاضي عن مشكلات وآلام شعبه وهموم مثقفيه ففي نص مسرحيَّة (الليلة الأخيرة للوركا) يجسدُ القيسي بروحٍ ومعالجة إسقاطيَّة استفراد السلطة الدكتاتوريَّة الدمويَّة بالمثقف ووضعها لحدوتي الحصان على وجهه في أنْ يرى طريقاً واحداً ولوناً واحداً لا غير.

لا يسعني أخيراً سوى أنْ أرددَ مع الراحل جليل القيسي أبيات الشاعر البرتغالي (ريكاردو ريس) حين ينعى عزلته وروحه المشتعلة كنار كركوك الازليَّة فيقول: (ما زلت على قيد الحياة.. غير مكترثٍ بأحد.. أنا الذي يجبر الجميع على الصمت.. أنا الذي يتكلم).