نهار صحبةَ بوذا

ثقافة 2023/10/30
...

  ياسين طه حافظ

هذا النهار حلو البرودة والأشجار حولي سامقة تريد المزيد من السماء وتتبارى بخضرة أوراقها اليانعة، ما يعني الحضور العميم للبركات.
ومع انشغالي كأي البشر هنا بالبحث عن دواء لأحزانهم أو لأمراضهم أو لاحتياجاتهم الأخرى، التي ينتهي بعض ليبدأ آخر، كنت عبر كل هذي المزعجات الأرضية وازدحام البشر على فرصة أو وسيلة للخلاص. كنت أريد المزيد لأرى.في هذا الخضم، أخذ نظري معبد صغير عليه ظلال التقوى والسلام العميق، ذلك الذي نسمع عنه ولا نراه إلا صوراً أو تماثيل هو معبد بوذي، مساحة من الأرض محاطة بجدار اسمنتي متواضع ظل بلونه المنطفئ لا تزيد مساحته كثيراً على الخمسين متراً مربعاً. وليس إلا بعض رموز، صورة منحوتة ملونة على قمة بابه تؤكد حضوره ولوذ الحائرين به والحاجة البشرية الدائمة للأسرار البعيدة ولأولئك الذين لهم صلة بالأبد.
بوذا أكبر الرموز وأعمقها وأوسعها دلالة في المدى الثقافي كما في الهند الشاسعة. وأنا الذي لا أدين بالبوذية، أحس بقداسة له وإجلال وأراني قرب المعبد البوذي مصدّقاً ومغموراً بالسكينة الناعمة والبركات.
في العزلة الصامتة، في سكينة المراقد والمعابد، في الأشجار البعيدة الملتمة مثل أخوات وحيدات، دائماً ما تلامس الروح ظلال الراحة والخلاص مما يكدّر أو يخيف. ابتعدت كثيراً عن شوائب كانت تخض سكوني وتربك عافيتي وسلامي.
هذا المعبد البوذي الصغير خلف مشفى ابولو في حيدر آباد الهند، استوقفني لأتطلّع أولاً ثم لأكون بعضاً من صمته، بعضاً من ذلك السكوت الذي يصلك بأول خلق الكون.. الرمز فوق الباب قريب من قمم الأشجار المحاذية لسياجه. لا سقف يصد أو يمنع العالم  الصغير عن السماء.
خطوط متوازية تؤلف «قمرية»، تركوا ما بين تلك الحظوظ فجوة، أو هي الشجرة اخترقت، لتواصل طريقها للضوء أو لتواصل مسيرتها للسماء.
ونحن نقول مستمرة في نموها للوصول للضوء، الضوء الإلهي هنا، قل إلى سماء الأرض والناس والحياة. الشجرة مثل أفاضلنا، تعرف معنى ومحبة وعظمة بركات السماء.
وقفت متطلعاً، محباً عابداً أنظر من شقوق بابه المغلقة إلى الباحة الفارغة ليس غير مرفقين صغيرين كما قفصين داخلهما ربما تمثالان، ربما تحفتان مما خلّف الكهان أو أوصل الزائرون.
الغريب والدال أن ساحته ترابيَّة، تراب رطب من ظل.
ثمة حوض صغير اسمنتي فارغ وما يشبه الكلمة أو نصف الكلمة الهندية، ولا شيء بعد غير الصمت والفراغ الذي تشرّب الأسرار.
غموض لا أوضح منه! وقفتي المتأملة كانت عبادة، عبادة لم يسبق إن كانت لغير ما أدين به. ومحبة لشيء لا أدريه، نقي صاف يصل هذا الدين بذاك وهذا المعبد بذاك وهذا المؤمن بالمؤمنين بينهم الله الرحيم، وبيننا خير ما امتلكت الأرض وما امتلك عقل البشرية، وهو الإيمان بالأزلي الخالد، وصاحب الحكم الفصل بين الخير والشر وبين التقى والكفران. ألمح ابتسامة عميقة المعنى تخاطبنا أو تعطف علينا أو تباركنا بالرغم من عدم الرضا الكامل.
ولا أخفيكم تمنيت أدخل وأتمتع، وأشفى روحي بخلوة.
تمنيت أن أكمل نهاري صحبة بوذا وأنهل عافية عذبة من خلوده ومجده.
هو لا يملك غير فسحة محاطة بجدار وينظر للناس والعالم شفيقاً يهب الجميع مغفرته وسماحته وأسفه ولطفه. وتبدو حاضرة قواه الخفية لتنقذ ولتعين.
غادرت صخب المرضى وذويهم والعاملين، ومن يرحمون مشفقين أو الذين يعيشون على بأسائهم ويحولون مِحَنهم نقوداً وبراعات خداع. ينقلون ما في جيوب المحتاجين للعافية للمحتاجين إلى خبز وما يبقي الكائن حياً.
محنة هي، مع من تتعاطف ومن ترثي ولمن تأسف وتألم. ليس غير أن ندعو للجميع بالهداية والنعمى..
أمشي باتجاه موقف السيارات، واذا بي أجاور معبداً مثل ذلك.
يا الهي، هذه ليست صدفة، هذا أمر إلهي أن نتذكر وأن نبقى نرى ما يذكِّر به وأن يكون من نؤمن به حاضراً لا يغيب، ذكَّرتْ به منارة أو قبّةٌ، رسم أو معبد لا ندري من أشاده ومن يرعاه.
هذا المعبد ليس أكبر مساحة من ذاك وباحتة الداخلية فيها ما يختلف قليلاً، وأن احتفظت بالزهد، بذلك الكفاف والمعنى.
بعد قيلولة من نهارٍ متنوع ما فيه، تساءلت: هل ما رأيناه أوجدته حاجات الناس، لأن يتذكروا السلام والسكينة والتقوى؟
هل لترتاح أرواحهم؟
هل ليجدوا منقذاً حين لا منتقذ وأملاً حين لا أمل؟ وإلا فأين يولي وجوههم الفقراء وهم ألوف وملايين والأوبئة شتى والحاجات لا تنتهي؟
رحت أتساءل وأنا أتذكر ما رأيت في أيامي الماضيات معبداً بعد معبد وقبة بعد قبة ومرقد شيخ ترك الدنيا لأهلها وغاب، هل لبعض الناس في الأرض صلة مع الخالد فلا يُنسى ويُذكر بالتمجيد؟
وهل أيضاً نرفع ايدينا بامتنان لمن لهم صلة وثقى بالروح والسلام والحكمة  أو ما نسميه موجزاً ممتلئاً بالمعنى؟
وهل ناس الأرض محكومون بالنسيان، فيحتاج النسيان فينا إلى ما يكفّه ويعيد الحياة، يعيد اليقظة، يعيد لنا الروح والانتباه إلى ما يمر بنا
ولا نراه؟
وأخيراً، هل الناس بعوز دائم للعون محتاجون دائماً لحلول مشكلاتهم، لمنقذ من شر ولمانح خبزاً وعافية،  أو آمناً وتمكناً على عدوان وشر؟
ما يكون حالهم بلا عزاء ولا أمل بعون؟
فالمعابد الكثيرة ليست كثيرة ما دام البشر في الأرض هذه حالهم في الأزمنة كلها!
اللهم أعِنّا على العيش والبلوى، وعلى أن نرى الصواب، وأن نرى في رموزك عوناً وهدى وتظل أنتَ معيننا الرحمن بأي اسم جئت وفي أي كتاب.