توفيق أحمد: الشّعر مفتاح الأبواب المقفلة
حوار: أحمد عساف
شاعر شكلت قصائده وطناً مختلفا من الإبداعات، فهو العاشق و الحزين والمبتهج.. لكتاباته طعم القمح في السهوب ، واحتدام العواصف، ونقاء القرى، وسحر الألوان، وكل أسئلة النساء التي مازالت تتهجاها شفتيه كلما أمسك بالقلم واتجه نحو بيدر الحروف.. هو نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية ورئيس تحرير صحيفة الأسبوع ، إنه توفيق أحمد الذي صدرت له مجاميع شعرية عدة، وشارك في مهرجانات محلية وعربية. وفضلا عن الشعر لديه برنامج (أحلى كلام) وهو إذاعي شعري يذاع يومياً على أثير إذاعة صوت الشباب السورية.. وتوفيق اليوم يعد من أبرز الشعراء هناك.
* برأيك، ما جدوى الشعر في هذا الزمن الرَّديء؟
الشّعْرُ كرسالةٍ أخلاقيَّةٍ وحضاريَّةٍ وإنسانيَّة هو ضدُّ الرداءة.
وأعتقد أنّك تقصد رداءة وقائعِ الحياة وتقلّباتِها وخيباتِها وشقائِها الذي يزيد يوماً بَعْدَ يوم.. وهنا تصبح مسؤولية المثقف أو الكاتب أو الشاعر أكبرَ بكثير، بحيث تجب عليه المواجَهةُ البنّاءَةُ من خلال صنوف المعرفة للتخفيف من حدَّة الوجع العامّ والخاص ومن أجل أن نبقى نحاول حتى تكون الأيامُ أحلى بكُلِّ ما يستطيعُهُ الشاعرُ من إمكانيات.. إذاً الشِّعرُ رسالة في كلّ الحقب والعصور حتى في كُلِّ أجناسه بمعنى: شعر المديح والهجاء والمناسبات وغير ذلك، لأن القصيدة التي يكتبُها شاعر واعٍ ناضج متمكن من ثقافة المجتمع وآليات كتابة الشِّعر، يمكن أن تحمل في طياتها وبين سطورها كُلَّ ما يَجبُ أن يُقال غاية في الإصلاح والبناء والفرح وطرح الأسئلة الضرورية.
* مرة، قلتَ لي: بالشعر أقبض على الحلم الهارب. هل ساعدك الشعرُ على القبض على ذاك الحلم الهارب؟
الحُلُم والشِّعر صِنْوان ورفيقان وتَحْكُمُهما الضرورةُ النفسيَّةُ والفيزيولوجية للشاعر والحياتية أيضاً.. الحُلُم هو صهوةٌ من غيم في زمن اليباب، والشّعر مفتاحُ الدخول إلى الأبواب المُقفَلة، وهو دمعةٌ على كُلِّ جفن، كما أنه ابتسامةٌ على كُلِّ شفةٍ، والشعر خفقان القلب؛ وزُلالُ الماء، وكرامةُ الوفاء، وهو اليقينُ بأننا بالأحلام نَصْنَعُ كُلَّ ما هو جميل، والشِّعْرُ امرأةُ الفوضى، وانتظامُ الأنثى، وهو تَعَبٌ وعَتَبٌ.. وهو أيضاً الفضاءُ الأرْحَبُ للضمائر النظيفةِ اليَقظة.
* وقلت لي مرّة أيضا: لا أعرف أحداً عاش في طفولته ويفاعته حياة بائسة مثلي، كما أنني لا أعرف أحداً تحدى وحشية البؤس والشقاء مثلي.
هل تلك الحياة هي التي صنعت منك شاعراً متميّزاً.؟
الشقاء وحدَهُ لا يصنَعُ الإبداع، الشقاءُ المُرّ باعتقادي يشكِّلُ إرادةً أكثرَ صلابةً وقوَةً وحيويةً لمن يمتلكُ موهبةَ كتابة الشعر.. بالنسبة لي الآن أكتب أثناء السعادة أكثر من فترات الشقاء.. فعلاً واجهتُ في طفولتي البؤسَ الوحشيَّ ولكنْ لأنني كنتُ قد بدأتُ أمتلئُ بالشِّعر أَعانني على المواجهَة.. أعانني على أن أكون إنساناً ذا توجُّهٍ مُحَدَّدٍ، ولو كان خاسراً من ناحيةِ الحصول على القدرات الماديةِ لملئ فراغات الفقر... أَخْسَرُ هنا وأحلُمُ أنني سأغتني هناك.. معادَلةٌ تفرضها الحياة والرؤى والضرورات.
*متميِّز أنت في قصيدة العمود.
وتميل إلى التفعيلة، لكنك، تقترب من قصيدة النثر، بحذر؟
لو قَرَأْتَني في سنيني الأولى لَكُنْتَ ذَهَبْتَ بسؤالك إلى وُجْهَةٍ أُخرى.. فأنا لم أَحْذَرْ
من النثر ولا التفعيلة.. بل أَحْذَرُ من العمود رغم أنني تعاملت معه وما زلت.
وسأفاجئُك في أيامٍ قريبةٍ قادمةٍ بنصوصٍ نثرية أزعُمُ أنها لا تُشبهُ غيرها.
* سعدي يوسف، ورياض صالح الحسين.
وآخرون غيرهم، الإلقاء الشعري لم يساعدهم على نشر قصائدهم جماهيرياً أكثر.
على عكس محمود درويش ونزار قباني ومظفر النواب ما رأيك؟
هذا صحيح لأنَّ كلَّ الشعراء الذين ذَكَرْتَهُم؛ كُلٌّ لَهُ حَنْجَرتُهُ وسلوكُهُ النفسيُّ والمجتمعيُّ، ولَهُ أيضاً خصوصيتُه في كتابةِ القصيدة.. أعتقد أن القصيدةَ الجماهيريةَ لا تعتمد على حُسن الإلقاء فقط؛ رغم ضرورتِهِ القصوى.. نزار شاعرٌ جماهيري ـ أدونيس نُخْبوي ـ مظفر النواب شعبي على بكائي على قدرات خاصة في إيصال ما يريد قولَهُ.. والجماهيريةُ برأيي تختلف عن مسألةٍ أُخرى اسمُها مِهَنيةُ وحِرَفيَّةُ الإلقاء، وهذا يحتاج إلى موهبةٍ وصوتٍ ومخارج حروف سليمة وثقةٍ ودُرْبةٍ مستمرَةٍ كالمذيع ومقدّم البرامج مثلاً، إذا كان يحترم عَمَلَهُ ويُتْقِنَهُ.
أو كخطيب المنابر المُفوَّه.
* كثيرة هي الكتب النقدية التي تناولت تجربتك الشعرية والعديد من رسائل الماجستير والدكتوراه.
وفي بعض هذه الكتب توقف من النقاد عند الصورةِ الشعرية في تجربتك.
ماذا يعني لك ذلك؟
النُقّاد أحرار بما يرتؤونَهُ من عناوين لدراساتهم، وقد تناولوا المرأةَ والوطن، والمكان والغربة والطفولة والبُنَى الدلالية والمُضْمَر الأنثروبولوجي والمعمار الفني، والأنماط وخطاب العشق والمكوّن الدرامي وبنية المغايرة وجُرأة كسر المألوف.. وشعرية الأشياء والكلمات والرؤية الجمالية ـ والإخوانيات والمقاربة السيميائية والحركة اللغوية ـ وقراءات أنطولوجية ـ وما وراء الغياب في شعري، والتبادلات بين الحواسّ وغير ذلك من الموضوعات.
وفي وقتٍ قريب ستصدر الطبعةُ الثالثة من كتاب; فارس وتخوم.
لذي يَضُمُّ عشرات المقالات النقدية عن تجربتي الشّعرية خلال أربعين عاماً مضت.
*منذ أسابيع قليلة عدت من عمان في الأردن، حيث شاركت في مهرجان (جَرَش) للشعر.
وقبل ذلك شاركت في مهرجانات شعرية عربية عدة، لعل أهمها مهرجان المربد في العراق.
برأيك، هل تصنع المهرجانات شاعراً لن ينسى؟
المهرجاناتً تجربةٌ غنيَّةٌ ودافئة، ولكنها ليست هي التي تصنعُ الشاعر.. يجب أن يذهب الشاعر إلى المهرجانات، وهو مصنوعٌ وفالحٌ وصاحبُ مقولات عالية في قصائدِهِ ..إذا لم يكن هناك شعرٌ، فالمهرجانات تصنعُ أشياء أُخرى.
* في كل مرحلة من مراحل كتابتك للشعر، تلجأ للتجريب، هل هو انقلابٌ على ما سبق من قصائدك، أم ماذا؟
الأمرُ ليس انقلاباً، بل هو مزاجٌ وحالاتٌ وثقافة.. ويجب أن تُتركَ أصابعُ الشعر، لتكْتُبَ ما يوحي لها العقلُ والقلب بأي موضوعٍ كان وبأيِّ شكلٍ كان.. شرط أن يحافظ الشاعر على رُقيِّ الشكل والمضامين.
* تقول: الشعر قائمٌ على صيانة الحرية بفولاذ المعرفة.
أليسَ الفولاذ قاسياً على قاموس الشعر؟
من أجل صيانةِ الحريّة يجب أن نفعل كُلَّ شيء، حتى ولو بنينا حصوناً وسواترَ، حتى لو أنشبنا حروباً.. لا إبداع بدون حريةٍ كاملةٍ على مستوى جميع المفاهيم الحزبية الأيديولوجية والدينية... فقط يمكن استثمارُ الموروث وإسقاطُهُ على الواقع للإنارةِ أو للإضاءةِ أو للقياس، خدمةً لأهدافٍ اجتماعيةٍ إيجابيةٍ يحتاجُها الواقع ليكونَ أفضل.
* وسط زحام مهامك باتحاد الكتاب العرب ورئاسة تحرير جريدة الأسبوع الأدبي.
وبرنامجك الإذاعي اليومي.
متى يكون للقصيدة حصتها؟
سؤالُكَ ذكَرني بمقولةٍ فرنسيةٍ قديمة تقول (لكي تكون شابّاً يجب أن تكون كبيراً في السنّ).
وأنا الآن تجاوزت الستينَ عاماً بقليل وأشعر يومياً بشهوة الكتابة، للقصيدة، والمقالة، وأيِّ نوع من أنواع التعبير عن مكنونات الذات وما يجري في المجتمع..