الصورة

ثقافة 2019/05/11
...

حامد فاضل
 
(1)
في متوالية أيامنا المتعبة. بنصل الفجر تشق الشمس خباء الليل، فتهب من نومها مدينتنا الخربة.. كائنات النهار فرادى وزرافات. تخرج من بيوت الطين، بيوت الصفيح، بيوت التجاوز، من اللا  بيوت.. بصدور مبطنة بالإشعاع، وأرواح مهددة بالموت المتربص في الأنحاء، وأرجل ناحلة كالقصب. تسرع نحو مَنْ كانت يوماً قلوب الطيور تهفو إليها.. ساحة مدينتنا، عروس الربيع التي تميس بثوب مُوَشًّى بالأزاهير، زنار من الآس، قلائد أقواس قزح من مصابيح، ونافورة تنث على سجاجيد النجيل رذاذ ماء قراح.. بثياب خسرت اسمهاً، وعباءات خسرت لونها.. شيب وشباب، نساء وأطفال.  يستبقون ليعدوا لهم متكأً على حُصُر التراب المبثوثة حول خصر الساحة، الخصر الذي كان يضوع بعطر أزهاره إذا داعبته أصابع نسيم الشمال.. ذات انفجار نهشته عُبُوَّة ناسفة. قطعت رؤوس عماتنا الفارعات، أوقفت خفق أجنحة الشعفات، لوثت ثوب ساحتنا بالسخام، بعثرت جثث الحمائم، الفواخت، العصافير على النجيل الأعزل.. هذه هي ساحة مدينتنا التي يحج إليها كل صباح خليط عجيب من فقراء ما بعد العام 2003.. أرامل متعبات، عجائز شمطاوات، أمهات ثكلانات، عَذْراوات متسولات، أطفال يتامى، وشيوخ هَرِمون.. ويطوف حولها بائعو الجرائد، النساتل، العلك، الشاي، الماء، وبائعو خرق مسح زجاج السيارات. هذا هو مَرْأًى الساحة ورُوَّادها كما تراه الشمس إذا ما أطلت من شرفة المشرق على صباح مدينتنا المتعب. 
 
(2)
 بخطوات طاووس، جلد حرباء، مكر ابن آوى، وفرشاة الأمس. دخل رسام اليوم المقر المحصن بكتل الاسمنت، الأسلاك الشائكة، الكاميرات، أجهزة الإنذار، والجُنْد المدججين.. الصورة المحمولة خلفه على أكتاف رهط الهازين ذيولهم مع الريح، وأدت تردده، واطلقت لسانه فراح يستعرض قدام صاحب الصورة  مهارة فنان صالح لكل العصور، فكم رسمت ريشته ومحت، وما تزال ترسم وتمحو، وستظل ترسم وتمحو، وترسم و.. ألخ، فالرسام يبدل قناعه كلما تبدلت الوجوه.. صاحب الصورة الذي لم ير غير وجهه القديم في جنسيته التي استبدلها بجنسية بلد بعيد. فتح عينيه على سعتهما، ليلتهما وجهه الجديد المطل من الصورة، التي تجاوز ارتفاعها قامته وقامات مَنْ يحيط به من حرس خاص.. مدهوشاً قدام الصورة تلبَّث غير مصدق، ثم فجأة استدار، خطف الرسام بين ذراعيه، احتضنه، عانقه، قبله، وأغدق عليه من الأوراق الخضر بغير حساب. وبإشارة واحدة حُملت الصورة ثانية على الأكتاف. ونحو الساحة زفت بسيارة مكشوفة، مزينة، مسبوقة برتل، ومتبوعة برتل.. زرعوا الصورة في الساحة، هتفوا، ببنادقهم طعنوا الهواء ، ثم انفضوا.  
 
(3)
التلميذ الذي كتم كاتم صوت أنفاس أبيه. مسح دموعه، كتم حزنه، شد حزامه، وغَيَّر مسراه من المدرسة إلى الساحة. فأصبح رقماً جديداً في قائمة فقراء الساحة.. تخلَّت يداه عن كتاب القراءة والحساب، لتحمل ماسحة الزجاج ورشاش الماء، فكانت شمس الساحة صباحاً تراه وهو يكمن كالصياد في انتظار الطريدة.. عيناه لا تفارقان أضواء إشارات المرور، ولكي يدشن التلميذ الصغير عمل أول يوم له في الساحة، أشرع ماسحة الزجاج، وهرول يسابق أقرانه نحو أقرب سيارة أوقفها الضوء الأحمر. راح يرش الماء على زجاج السيارة ويمسحه، ولم يثنه رفض سائقها من الحصول على ثمن خدمته، وما هي الا بضعة أيام حتى احترف التلميذ الذي لم يعد تلميذا عمله، يستيقظ ما إن يغبش الليل ويهرع إلى الساحة. يقضي نهاره بالتربص للسيارات، وعند المساء يعود ليلقي برأسه في حجر أمه، ويفرش أجفانه لاحتضان ابيه، الذي قيل له انه غادر الى عالم ناصع كثوب العروس، عالم ليس فيه يد تسرق، ولا لسان يكذب، ولا وجه ينافق.. في منتصف أول نهار للصورة، التلميذ الحافي القدمين، دخل الساحة المهددة بالانقراض، رفع دشداشته، قدام الصورة أقعى وأقام مأدبة للذباب.