متحفُ شمع

ثقافة 2023/11/01
...

أحمد عبد الحسين
تقعُ هذه الأيامَ أمامَ عينيّ خطاباتُ أناسٍ مشاهير “من النساء والرجال” عن  أحداث فلسطين. وأوّل سِمةٍ فيها أنها مكتوبةٌ بلغة شمعيّة مُصمتة، لأنّ باعثها الأول هو الواجب العينيّ لا الكفائيّ الذي فرضتْه الشهرة، فالمشهور لا بُدَّ أنْ يتحدثَ في واقعة كهذه، ولزامٌ عليه أنْ يقولَ شيئاً تحت ضغطٍ خفيٍّ من قبل جمهوره، ضغط لا يتحسسه إلا هو، ولكي يظلّ حاضراً بوصفه شخصية عامة ولئلّا يكون صمته نقطةً قد تُحسب ضدّه في قابل الأيام.

هذا أوّلُ إكراهٍ مفروضٍ على المشهور: أنَّ كلامه واجبٌ عينيّ. ولهذا فإنَّ خطابه مكتوبٌ بلا مزاج، من دون شهيّة، يعاني جفافاً، ماؤه قليل، وكلماته تجول في المكرّر والإجرائيّ، وشيءٌ ما في الخطاب يهمس: أنا مكتوبٌ لفضّ العتب.

الأمر الآخر في خطابات المشاهير تلك المحاولة المستميتة “والمستحيلة” لإرضاء الأعراف والتقاليد الذهبيَّة لمَجْمع الشخصيات العامّة، وهي تلزم صاحب الخطاب ـ إذا أراد الإبقاء على عضويته في نادي المشاهير ـ ألّا يدين أحداً إلا إذا أدان الثاني، وألّا يمدح طرفاً إلا ومدح الآخر. في يده ميزان ذهب، لكنَّ الموزونَ ليس ذهباً بل نشارة خشب.

هذا إذنْ هو الإكراه الثاني: الكتابة تحت ضغط عُرف المشاهير، ولهذا الإكراه اسم دلع هو الموضوعيّة، وأحياناً يسمونه الحياد، لكنَّه في الحقيقة الرضوخُ لمنطق النخبة “الذي هو منطقٌ مافيوي” وملخصه: إذا كنت أقفُ ضدّك فلا تبتئسْ يا صديقيْ لأني ضدّ عدوك بالقدر ذاته، وإذا مدحتُك يوماً فاسمحْ لي أنْ أمدحَ الآخر أيضاً، ليمرّ اليوم بسلامٍ ولنخرج من هذا الواجب الثقيل بأقلّ الخسائر.

هذا الخطاب عالميٌّ عموميٌّ وله أعرافه وتقاليده وأخلاقه. تجده عند أنجلينا جولي كما تقرؤه عند كاتبٍ عراقيّ يحدّث نفسه بأنَّه مشهورٌ ويسرح بخياله في مراقي العالميَّة. تجده عند مشاهير فيسبوك الذين لأحدهم مئة ألف متابعٍ لا يفعلون شيئاً سوى وضع القلوب أو الوجوه الضاحكة، كما تجده عند مفكرٍ مثل سلافوي جيجك. في الحقيقة فإنّ كلّ مَنْ هبّ ودبّ من المشاهير يعرف أنَّ عليه أنْ يقول شيئاً لئلا تخلو الحفلة من وجهه الكريم، ثمّ عليه أيضاً زِنةُ قوله بميزان الذهب والحرص على أنْ يكسبَ باليد اليمنى ما يخسره بيده اليسرى.

الإكراهان تؤكدهما وسائل التواصل. ففي فيسبوك مثلاً تتعرّض لعتابٍ يصلُ إلى حدّ التقريع إذا أنت قررت الصمتَ عن قضيَّة كبرى، سريعاً سيأتيك السؤال: “لماذا؟”. وحين تكتب فإنَّ ما تكتبه إذا كان لك رأيٌ منحازٌ لجهة تراها الأحقّ فستجابه بسؤال: “وماذا عن الآخر؟”.

وكالمشاهير الحقيقيين فإنَّ سكّان التواصل الاجتماعي مطلوبٌ منهم أنْ يكتبوا، ومطلوبٌ منهم أنْ يوازنوا، وباختصار: مطلوبٌ منهم أنْ يكونوا مشاهير.

هذا أحد أقوى العقاقير التي يمنحها فيسبوك وتويتر للناس: يُشعرهم بأنَّهم كلّهم نجومٌ ومراقبون من قبل جمهور، وعليهم أنْ يتحدثوا كمشاهير وهم يسردون شؤونهم اليوميَّة العاديَّة، حين يصفون الوجبة التي أكلوها وشوارب سائق التاكسي الذي أقلّهم أو يتحدثون عن الوقت الذي يقضونه في التواليت.

كلّ شيء مكتوبٌ تحت الضغط، ضغط الشعور بالواجب العينيّ أولاً ثم ضغط الاحتكام للعرف المشهوريّ.

ثمرة ذلك لغةٌ شمعيَّة تكررها تماثيلُ شمعيَّة في متحف شمع.