هل سرقتَ كتاباً ذات يوم

ثقافة 2023/11/01
...

إذا كان يطلق هوس جمع الكتب على باللغة الانكليزية (ببلومانيا)، فما المصطلح الذي يطلق على هوس سرقة الكتب؟

لم يحدّد علماء النفس أيّة تسمية لهذا الهوس، وهو يوضع تحت مسمّيات السرقة بشكل عام، لكنّه مع هذا له خصوصيات عدّة ليس أوّلها أن يكون السارق مولعاً بالكتب وقراءتها، أو تاجراً يفهم ما الذي يعنيه الكتاب، وربّما تدخل أسباب كثيرة لهذه السرقة، غير أنَّ الأمر وصل بالبعض إلى الفخر بهذه السرقة، يجاهرون بها في أيِّ مكان، بل إنَّ بعض سرّاق الكتب المعروفين في شارع المتنبي ومعارض الكتب شكّل عصابة مصغّرة من مجموعة من المراهقين يوجّههم لأيّة مكتبات أو بسطيات كتب عليهم أن يسرقوا منها، وما الطرائق الآمنة للسرقة!


فهل يمكن أن نقتنع، بالمقولة الشهيرة (القارئ لا يسرق والسارق لا يقرأ)، ربّما ينظر الكثير لهذه المقولة على أنَّها غبية، لأن لا أحد يسرق الكتب إلا القرّاء، فهم من يدخلون إلى المكتبات ويأمن أصحاب هذه المكتبات لهم، فوجوههم معروفة، وربّما تربطهم علاقات خاصة بهم.. لكنّنا أيضاً نقف عند ظاهرة أخرى لا تختلف عن السرقة، وهي عدم إعادة الكتب التي يستعيرها البعض، والموقف نفسه، مفاخرة بالاحتفاظ بالكتاب.

فكيف ننظر لسرقة الكتب؟ وماذا نسميّها؟ وما الذي علينا فعله لمن لا يعيد الكتب التي استعارها؟ أسئلة كثيرة لا تنتهي بحاجة للنقاش:

 فتوّة معرفية

يفتتح الدكتور سراج محمد كلامه ببيت الشاعر محمد بن مصطفى [كم من كتابٍ شريفٍ ضاع عاريةً... فصرتُ من بعدهِ في الناسِ حيرانا]، مفيداً أنَّ للإعارة تاريخها وفقهها وأخلاقياتها، ومخاطرها في الوقت نفسه، وهي ضاربة في عمق الزمن، ولعلَّ تاريخها في ثقافتنا العربية، يعود إلى تاريخ التأليف نفسه، منذ القرن الثاني الهجري، ولأنَّ الثقافة العربية تثمّن العلم والمعرفة، فقد دارت حول أصول الإعارة مقولات كثيرة، تشجّع على المنح المؤقّت للمسوّدات والمؤلّفات، وبعد أن اختبر أهل المعرفة وأصحاب المكتبات والورّاقون، النزعة البشرية المجبولة على السلب والإيجاب، تنبّهوا لمخاطر الإعارة وتداعياتها، حتّى ألّفت في ذلك كتباً، ونقرأ الكثير من الأخبار في أمّات الكتب حول هذا الأمر، ولم يختلف الأمر في عصرنا الحالي، بل صارت مخاطر الإعارة مفتوحة، وغير مقيّدة بالاستئذان المباشر في طلب الكتب، حتَّى تحوّل الأمر من الاستفادة إلى السرقة، والحقيقة أنَّ الكتاب على أهمّيته، فهو لا يختلف عن سائر الأشياء الأخرى، وهو خاضع للإلزام الأخلاقي، وخلاف ذلك، يُعدُّ سرقة وسطواً، أمَّا ما عمّق مخاطر الإعارة في وقتنا الحاضر، هو امتلاكنا لمكتباتنا الضخمة الشخصية، مشيراً إلى المختصين والباحثين، فكثرة الكتب، وكثرة المستعارين، تفقدنا تذكّر العنوانات والأعداد المحدّدة التي قمنا بإعارتها، بل حتَّى بتذكّر الأشخاص أنفسهم، أمَّا التفاخر بسرقة الكتب، فهو أمر لا يمكن تبريره تحت أيِّ ظرف، حتَّى لو كان المسمّى داخل في الفتوّة المعرفية أو الصعلكة، إذ لا يمكن الحديث عن نزاهة السرقة ومشروعيتها مطلقاً، “إنَّ الذي يسرق، ليس من ذوي المعرفة، فالقارئ والمثقّف لا يسرقان مطلقاً”، وفي النهاية، لا داعي لأن نذكّر أنفسنا بمقولة برنارد شو الغبية أيضاً: غبي من يعير كتاباً، والأغبى من يستعير كتاباً ويعيده!

كتب مشاعة

ويرى الدكتور نجم الشتالي أنَّ ظاهرة انتشار سرقة الكتاب من المكتبات والاساتذة والاصدقاء فيما بينهم تتسع بشكل واضع، واتخذت أشكالاً متعددة يتباهى البعض بها ويذكّرك بعد حين أنَّه سرق منك هذا الكتاب أو ذاك وكأنَّه حقّق نصراً باهراً، ولا يوجد مبرّر لذلك سوى سوء الخلق بسبب الانحلال الأخلاقي الذي يعمُّ المجتمع. “استعداني الموضوع إلى تذكّر ظاهرة فريدة وجدتها في مدن عديده في زيارتي العام الماضي إلى ألمانيا بتحويل كابينات الهاتف العمومي إلى مكتبات يضع فيها أبناء المنطقة كتبهم الفائضة فيها وتحويلها إلى مكتبات مفتوحة يستعيرون ما يرغبون منها بشكل انسيابي، كما تتجدّد الكتب فيها بشكل تلقائي، استفهمت من صديق ألماني عن خشيتهم من سرقتها، في حين سرقت الكثير من كتبي داخل غرفتي في الجامعة والبعض الآخر من منزلي وعلى يد أصدقائي من الأساتذة الجامعيين أو ممّن يحسبون على المثقفين.

مقولات غبيّة

ويشير الروائي ميثم سلمان إلى أنَّ الكتاب ملكية خاصة لصاحبه، أو سلعة لها قيمتها المادية، مثلها مثل أيّة سلعة، كلّفت صاحبها ثمناً ما. لذا عندما لا تردها إلى صاحبها أو تسرقها من المكتبة، فإنَّك تسلب حقَّ غيرك.

الذي يصف سرقة الكتاب بأنَّها نبيلة أو يغلّفها بغطاء مشاعة الفكر أو المعرفة هو بالنهاية يبرّر لعمل لا أخلاقي. أسباب ذلك كثيرة منها اقتصادية (شدّة عوز السارق مقارنة بأسعار الكتب)، ومنها يتعلّق بقلّة المكتبات العامة أو عدم اقتنائها العناوين الجديدة، ومنها أخلاقية طبعاً. بعض الذين يفعلون هذا يجترون عبارة برنادشو، “غبي من أعار كتاباً وغبي من أعاده”، وهي عبارة غبيّة جداً.

ويضيف: قبل أكثر من عشر سنوات اشتريت مجموعة كتب، عن طريق ابن اختي في بغداد. عرفت منه إنَّ البائع كان قد أنضم مؤخّراً إلى أحد الأحزاب السياسية. تبيّن فيما بعد أنَّ هذه الكتب كانت تعود لصديق له هاجر خارج العراق بعد السقوط. وهو أيضاً عمل لا أخلاقي إذ إنَّه باع الأمانة التي أودعها صاحبها عنده. وعندما وصلتني بعض هذه الكتب إلى كندا وجدت فيها كتابين عليهما إهداء بخطِّ المؤلّفين: (اليد تكتشف) للشاعر عبد الزهرة زكي عليه إهداء إلى محمد الهجول، والثاني (أسلاف) للقاص سعد هادي عليه إهداء إلى الكاتب عبد الجبار العتابي. ربَّما صاحب الكتب الأصلي هو أحد المثقفين العراقيين.

 مبرّرات بائدة

ويكشف الروائي نعيم آل مسافر اعتراف كثير من الكُتاب والروائيين العالميين، إن كان في لقاءات صحفية أو في مذكراتهم أنَّهم كانوا سُرّاقاً للكتب، كجان جينيه في كتابه (يوميات لص) أو ماركيز أو غيرهم، لذلك أصبحت شبه موضة، تبعهم بها عدد من الكتّاب والمثقفين العراقيين والعرب. وأصبح هذا الفعل تقليداً يتبجّح به فاعله! إن كان كاتباً أو قارئاً أو من مدّعي الثقافة، الذين يجدون في معارض الكتاب ميداناً رحباً لممارسة هذا الفعل المذموم، بالرغم من معرفة الجميع بأنَّ السرقة تبقى سرقة سواء كانت لكتاب أو لغيره. ربَّما قد نجد لهذا الأمر تبريراً في السابق، كون الكتب الورقية غير متاحة لسبب وآخر، أو لقلّة ذات اليد، أمَّا اليوم فهي متوفّرة بشكل كبير، مع وجود المكتبات العامة، ومهرجانات القراءة، والكتب الالكترونية المجانية، فما الداعي للسرقة؟! وهنالك نوع آخر من السرقة يمكن أن نسمّيها السرقة المقنّعة، وهي عن طريق الإعارة، إذ تفهم بشكل خاطئ مقولة برنادشو (غبي من أعار كتاباً وغبي من أعاده) وهي مقولة تدلّل على أهمّية الكتاب، ولكنّها من جهة أخرى تقف حائلاً أمام التبادل الثقافي والمعرفي، فصاحب الكتاب يقرؤه مرَّة أو مرّتين وقد يعود إليه في بعض المرّات، إن كان الكتاب مصدراً، ولاسيّما لصاحبه إن كان باحثاً، لذلك سيبقى ذلك الكتاب حبيس المكتبة، فلا يُطلق من سجنه خوفاً من الفهم الخاطئ لبعض تلك الأفكار، كمقولة (برنادشو) هذه. فقد فقدت الكثير من الكتب الثمينة بسبب هذه العادة السيّئة، التي لن أسامح مقترفيها، إلَّا في حالة أن يكون الكتاب في متناول الجميع، بأن يعيروا ما استعاروه منّي إلى غيرهم. سرقة الكتاب بأيّة وسيلة كانت؛ ليست ظاهرة ثقافية مستساغة، بل هي جناية يستحق مقترفها عقوبة قانونية.

شغف القراءة

ويبين الكاتب ناصر العتابي أن لسرقة الكتب، فيما مضى، أسباباً وظروفاً، مثلاً؛ أسعار الكتب المرتفعة، الدخل المحدود أو المعدوم أصلاً، ونهم الحصول على المعرفة. غير أنَّ الثورة المعلوماتية وتوفّر منصّات التواصل بفضل وجود الإنترنت في البيوت، جعل الحصول على المعلومة والكتاب سهلاً ومتاحاً تحت أيّ ظرف. وحتى الكتاب الورقي أصبح في متناول الجميع وبأسعار معقولة.

لا شكّ، أنَّ سرقة كتاب مهما كان ثمنه زهيداً هو نوع من اللصوصية والتعدّي على حقوق الآخرين. لديَّ صديق مقرّب مكتبته عامرة، أستعير منها ما أشاء، وبعد انتهاء الغرض منها (القراءة) أعيدها بكلِّ امتنان ومحبّة. ويفعل مع مكتبتي بالمثل. غير أنّي لا أنفي دور الشغف والولع وأحياناً (الهوس) باقتناء الكتب وقراءتها، بمحاولة الحصول عليها بشتى الطرق..

حدث معي مرَّة: (جاري في السوق اشترى أثاثاً قديماً من بيت رجل مسافر وبضمنها مكتبة كتب مستعملة. كانت مكتبة كبيرة، حاولت التفاوض معه على سعرها ولم نتوصّل إلى اتفاق، يريد بيعها دفعة واحدة. في أثناء المعاينة وقعت عيني على كتاب” الخصائص” لابن جني، بأجزائه الثلاثة، اضطرب قلبي وحاولت معه بيعي الكتاب بأيِّ ثمن ولم يوافق.

في أثناء عودتي ليلاً مررت به فوجدت المحل مغلقاً وأكوام الكتب بباب المحل مغطّاة بالنايلون فقط. رحت مباشرة على أجزاء الخصائص وأخذتها! بعد أيام حينما تأكّدت من بيعه المكتبة ذهبت إليه وأفشيت سرّي (سرقتي) ودفعت له الثمن كاملاً.

ادمان القراءة

ويختم الشاعر علي العطار كلامنا، قائرً إنَّ الكل يبحث عن قصّته الخاصة، عن أسطورته التي توفّر له مكاناً بسيطاً في جنة الثقافة العراقية.

أسبوعياً، وعلى مدار سنة، كنتُ أدير (نادي القراءة) في مدينتي، وكانت أغلب المشاركات هي وصف للكتاب، وإذا توسّع فيأتي على ذكر قصّة الكاتب وكيف انتحر أو مات، وعن حب المشترك للكتاب، وحينما يأتي دوري لفتح نقاش مع المشترك أجد أنَّ قراءته لم تخترق الهالة التي صنعها الجمهور لهذا الكتاب أو الكاتب.

وفي الجلسات الخاصة أغلب الأصدقاء الذين يناقشون الكتب لا يدورون حول أفكارها، لا يحاورون الكتاب أو يتفاعلون معه معرفياً بقدر ما يقصّون لنا قصة الحصول على الكتاب ومن أين جاء وأين طبع وما مواصفاته الفنية، وبرزت فئة من القراء تبحث عن الطبعات الأولى. وكذلك بدأ بعض القرّاء يتفاخرون بحصولهم على نسخة من كتاب يحمل إمضاء كاتبه وهو يهديه إلى أحد أصدقائه، وقد أصبح بعض الشباب من عداد المثقفين لمجرّد حصوله على نوع كهذا من الكتب.

في المقابل يبحث المهتمون الذين يتوشّحون بالصعلكة عن أسطورتهم الخاصة من خلال سرقة الكتب من المكتبات والمعارض، وهم يقصّون ابتكاراتهم في السرقة بشيءٍ من الزهو، وبعض قصص السرقة التي تحمل شيئاً من المبالغة قد اشتهر على نطاق واسع، ولا يتمُّ النظر إليهم على أنَّهم سرّاق، بل يتم التعامل معهم على أنَّهم من خيرة المثقفين.

ويعتقد العطّار أنَّ الفكرة الأساسية من السرقة ليست قراءة الكتاب أو الإفادة منه، بل هي نشوة السارق في الحصول على كتب أجمع المجتمع الثقافي على أهميتها ومن هنا يستطيع أن يشارك في حديث ثقافي مع أصدقائه، فأغلب الأحاديث الثقافية استعراضية بسيطة، وكذلك ينظر له بتقدير أكبر ويحصل على مرتبة أعلى في الصعلكة.

وقد انتشرت هذه الظاهرة بشكل كبير ولا تُعدُّ من باب السرقة، فالسارق يتحدّث عن وجوب سرقة الناشر الفلاني أو الدار الفلانية، لأنّه ثري أو كتبه باهظة، وهنا تستخدم بعض الأفكار الفقهية والطبقية بطريقة كارثية.

طرحتُ في الانستغرام سؤالاً عن (السبب الذي يدفعك لسرقة الكتاب) فكانت أغلب الإجابات من قبيل: لدينا ادمان على القراءة ولا نملك المال. وكانت الإجابات الباقية هي: حب الكتاب أو حب المعرفة.