فضاء لغبار الطلع احتفاليَّة الخلق الشعري عند أدونيس

ثقافة 2023/11/01
...






هويدا محمد مصطفى




أدونيس الشاعر ما زال يرى في الصوت الشعري الغامض ألف معنى، وقد اخترقت حداثته كل الحدود، ومنذ ما يزيد على خمسين عاماً وهو يتربع على عرش الفلسفة، معتمداً على دقة ملاحظته وصفاء المجازات في استعارات بلاغية، ليصنع منها دولة الشعر، وفي كتابه /فضاء لغبار الطلع/ يحاور فيه الأمكنة التي تبحث عن غبار طلعها، وقد هندس فيه لغته باشتهاءاتٍ خلاقة توهجت جواهرها كأنها قرص الشمس الذي يدور باتجاه الشمس نفسها، لقد أغرق كل التفاصيل الحية فكان التاريخ في نصوص الشاعر مرتبكاً، بل ممزقاً في الأعماق، ورغم الصفاء اللغوي الذي رصد فيه اللامرئي من خلافة الزمن القديم، إلا أن الصدمة لا تزال صديقته عندما يقرأ هجرة الجهات العربية خارج حدودها المعروفة، وبلا دليل..وفي ص 13: الجهات هنا هي الجهات كلها / طيور مهاجرة أبراج بوارج، كيف لماذا أنّى أين/ إذاً هل تعانق الرمل أيها الماء؟/هل تعانق الماء أيها الرمل؟ هل العابر هو وحده المقيم؟ هل الأبدي هو وحده الفقير إلى الزائل؟..

في هذا الحفر اللغوي الذي استخدم فيه أدونيس أسماء الاستفهام (كيف – لماذا – أنّى - أين)، وكذلك كرر حرف الاستفهام (هل) ثلاث مرات في المقطع دلالة على لهفة أب محروق على أهل، ولكنه حاول أن يضبط مشاعره بما يهدئ من روع الابن البكر الذي هو المكان هنا، حيث جرف التصحر كل شيء وغدت الطفولة مطوية على نفسها. إن هذه التداعيات هي التي دفعت بالشاعر لأن يقرأ في الحياة العربية هذه التقلبات المريرة، ولهذا أكثر من طرح الأسئلة وهو الذي يعرف الجواب، أي أنه استفهام العارف والمنكر في آن واحد، لقد أحدث النص الأدونيسي انقلاباً على صعيد الخطاب الذي أراد من خلاله أن يستعيد سلطان التاريخ، وجبروت الأرض، في رشاقة اللغة وفطنة المعاناة.. وفي ص 14: لا تزال السماء فتية فوق بحر العرب/ والأرجح أنها لا تهرم / لكن هل هذا القول مدح أم هجاء؟ ثمة تشكيل مزدوج تفاعل فيه زمان القصيدة ومكانها، وكانت الهمسة المجروحة مؤقتة، وقد غزاها الحنين إلى ماض غائر دخلت فيه الخواتم تجليات الكشف، رغم أنه مشى خارج نصه وتجاعيد أحلامه، ومع كل الانحناءات ظل أدونيس واقفا على جبل (قاف) من دون أن يقدس أحدا، يسأل عن سندباده العربي بمرجعيته الثقافية التي دخلت كل البيوت، جاعلا منه علامة عصرية على الشبكة العنكبوتية، أما في مخيلة / ابتكار المكان/ فإن الشاعر فيها يجدد شهوة الغزالة لتعلق قرنيها في جورب القمر ويحمل الرمل مسؤولية ضياع النعل الذي فقده امرؤ القيس، لأن قصيدته قد أبدعت طريقاً للقوافل، ولكنه طريق متعدد الأبعاد ويعيش في مخيلة الشاعر وحده، لأنه انتقائي ومن صنع الحواس. ص 15 - 29: عندما يركب سفينته يكون قد علق القمر بقرني غزال / وتفقد أثداء الصحراء تلك التي ترضعها النجوم، كان امرؤ القيس في ما يروى، يخصف نعله بالماء والرمل / في اللحظة ذاتها / هكذا كان يقول لأصحابه: أن نحيا هو أن نحول الجدران إلى أجنحة .. ورغم هذيان السكارى من أهل هذه الأيام فإن مدماك النص الأدونيسي ظل حارساً لقافلته ومجاورا لمفرداته، وهو يقف أمام أمة القصيدة يفكر في كل عضو من أعضاء جسدها حتى تكون وفية له، ولأنه مؤمن بوصية أخرى حيث شغلته أزلية النص على طريقته لكي لا يلتبس عليه الخريف بالصيف، ويضم الشاعر صوت جده امرىء القيس مقيماً له، أن الحكمة العربية قد ذبلت كوردة العطر ص31: /أضم صوتي إلى صوتك يا امرأ القيس/مقسماً أن الحكمة وردة ذابلة / والعطر نفسه يشجعني على هذا القسم/ ولئن كانت الفلسفة الوجودية تحمل الإنسان مسؤولية عمله، فإن ما يطرحه أدونيس في نظرية الأمن الأحمر في العتبة الثانية من كتابه وعنوانه /جذر السوسن/ يحمل فيه الوجدان العربي المعاصر كل ما جرى في العراق قبل غيره من دول الاحتلال في هذا الخطاب عن انطفاء مرايا ثلاث في عصرنا، هي الحق والخير والجمال، وتعبر قصيدته غبار لفضاء الطلع عن صوت الأبجدية الكردية والعربية في عصر الانحدار، لأن ربيعهما لم تعد تمطره صباحات الطيور ولا ضباب أرواح العاشقين ليعيشا معاً. وفي ص 44: /كيف أخرج من حلبجة؟ كان الشجر الذي احترق يضع في رماده بيتاً للعشب/ في كل غصن، وفي كل شجرة/ شفتان تقرآن وعينان تبكيان/ ورأيت الأبجدية الكردية تتطاير من الأنقاض والأشلاء حرفاً/ حرفاً وصورة .. كمثل ذرات من غبار الطلع..

أليس هذا التشبيه لرماد اللغة الكردية بذرات من غبار الطلع، احتفاء جديدا بالمستقبل الذي سيزهر فيها ذات يوم ربيعي، لينقل غبار الطلع صورة أخرى تنضج معها الثمار . لقد واجه أدونيس في نصوصه الجديدة قوى الغموض لأن سراجه فيه ذبالة من الضوء الذي يحترق فيه المجهول وعناوينه التي شكلت عتبات لتلك النصوص، تذكر بالعبارة التي تقول:/عندما ينام الضمير البشري تستيقظ كل الوحوش/ لقد مر الموت على جميع الأشياء الحية في العراق، وصارت الأمكنة ذات إيقاع شعري حزين تحس به وتسمو كما فعل الشاعر الذي لم يترك من أبجدية الحياة العراقية المكسورة شيئاً دون أن يحياه، ولقد أصغى أدونيس في ما كتبه بكتابه إلى صوت الأنوثة، وفي ص61: /في طريقي من المطار إلى سان سيرفولو _في مركبة مائية سريعة، كانت نوارس على مدى الماء تسبح في نوع آخر من الفن/ ويعيد إلى الذاكرة سلطة النص تحت سقف التلاقح الثقافي بإدارة عاشق للسيف العربي وقد اكتشف أبجدية أخرى، في قيامة الذكرى حيث نهض شيللي من غرفة في خليج /ليرتنشي/على الأرض التي تنتمي إليها البندقية، ليقرأ عليه سبب طرده من جامعة /أكسفورد/ حيث أصدر بياناً عزز فيه ضرورة الإلحاد، وفي ما بعد أحرق جثمان بيني يدي الشاعر بايرون، عبر هذه المحاكاة يريد الشاعر أن يقول لنا إن القارات مهما اتسعت أطرافها وزاد عدد سكانها لن ينسى فيها الناس ما قاله الرب لقابيل حين قتل أخاه غروراً وظلماً، وبقي قابيل في نظر ربه ملعوناً حتى النهاية، أما العتبة الثالثة في الكتاب فقد حملت عنواناً هو /غيوم تمطر حبراً صينياً/ وبدأ قلم الشاعر منفعلاً بهذا الحبر المشهود له بعمقه وتأثيره في الورق الذي عرفته البشرية، وفي ص 75: هبي يا رياح كونفوشيوس، وأنت كذلك هبي أيتها الروائح البوذية والطاوية، وقولي لكل محسوس أن يفتح ذراعيه/ بيت زينب يفتح صدره للغداء/ بيت جميل غني...من أجل هذه الحفاوة سكب زجاجة عطره على الأمكنة الصينية، وهو يدثر عباءته بلونها القرنفلي وربطة عنقه الزرقاء، التي حملت إليه رائحة (قصابين) قريته في أرض المطار، وفي إطلالته الأخيرة على خلاياه النافورة في جسد الوقت، عاد ليقرأ مع لوركا في لوحة خضراء من عصر غرناطة الذهبي، وقد تحولت الحكمة فيهما إلى طفلة تائهة ..ومات لوركا وفوق أوراقه الصفراء لا يزال دم القصيدة يشير إلى فساد عصر الملوك، وأخيراً أقول لقد اختبر أدونيس في كتابه ساحة الرؤيا وذكر بالقميص المسموم الذي أرسله ملك الروم إلى امرىء القيس، فتقرح جسده ومات، ولاحق فكرة النص العربي الشعري التي رأى في أصحابها ضعفاً، بأن تجربتهم لم تكتمل بعد، لأن القائمين على الزمن العربي متورطون فيه بانتظار نهاية غامضة .