كيف تلقن طفلك الفلسفة؟

ثقافة 2023/11/01
...








مؤيد أعاجيبي


خلال مسيرته الحياتية، يخضع الإنسان لمجموعة من التغيرات النمائية، سواء كانت تلك التغيرات تأتي على الصعيدين الجسدي والعقلي أو الاجتماعي والعاطفي. هذه التغيرات تحدث مع تقدم الأفراد من مرحلة الطفولة نحو مرحلة الرشد. تعد فترة الطفولة من بين أهم المراحل في نمو الإنسان، إذ يُظهر ما يتلقاه الطفل خلال السنوات الأولى من حياته تأثيراً كبيراً في تشكيل شخصيته وأنماط سلوكه وعاداته في مراحل حياته اللاحقة. لهذا السبب، يجب أن يكون لجميع المربين في هذه المرحلة العمرية توعية كبيرة بأهمية هذه المرحلة والاهتمام بها بشكل خاص.

التفكير هو من بين القدرات التي يجب أن يكتسبها الفرد من خلال التجارب العملية. عليه أن يفهم الأطفال أهمية فهم معاني الخبرات الحياتية التي يمرون بها، فهذا يمثل أحد الأساليب التربوية التي تسهم في تعزيز مهارات التفكير وتمكينهم من التغلب على الصعوبات التي تعترض تطور مفاهيمهم وفهمهم عن طريق الأسئلة.



والفلسفة بدورها تبدأ بالاهتمام بالسؤال، ومن خلال السؤال تطورت. لا يوجد من يطرح الأسئلة أكثر من الأطفال، ولذا يمكن إدراج أسئلتهم ضمن نطاق الفلسفة، لأنها تعتبر مجالاً خصباً يمكن بواسطته ربط الخبرات المتنوعة الموجودة في المنهج التعليمي، مما يساعد في تطوير رؤية شاملة وفهم عميق للخبرات الإنسانية. الفلسفة تمثل منهجا إنسانيا يتيح للفرد التفكير في العالم والزمان والمجتمع، وتضمن التأمل في جوانب الإنسان بما في ذلك عقله، وضميره، وسلوكه. 

تدريس الفلسفة للأطفال يسهم في تمكينهم من فهم المعاني الحياتية للخبرات التي يمرون بها. يناقش هذا التعليم العقل والضمير لدى الأطفال، ويأمل أن يتحول السلوك الناتج منه إلى مشتق من تفكيرهم وقلوبهم. فالفلسفة ليست مجرد لعبة للأطفال، بل تمثل تجربة إنسانية عميقة تعتمد على تفكير تربوي مميز، كونها تقدم فرصاً متعددة ومتنوعة للتفكير والتفكر. ليس كافياً أن نشجع الأطفال على النقاش والتفلسف بينهم، بل يجب أن تكون هناك استراتيجية تعليمية صحيحة وتصور تعليمي يدعم المدرسين ويساعدهم في تحقيق أفضل النتائج الممكنة. توج هذا الإيمان بتصميم مناهج تعليمية متنوعة، تستند في الغالب إلى مفاهيم علم المعرفة بجوانبها المختلفة، وتركز بشكل رئيسي على فهم قدرات الإدراك والذكاء لدى الأطفال. يتم إسنادها إلى أساليب البحث في علم النفس التربوي والنظريات الحديثة للتواصل، التي تؤمن بالتفاعل والتأثير والإبداع.

فالفلسفة لم ترتبط في نشأتها بالمؤسسة التعليمية، ولم تظهر فجأة بلا تأسيس. إنها نشأت في سياق المدينة، إذ شكلت المدينة نمطاً دائرياً حيث تمركزت الحياة العامة حول الأغورا (الساحة العامة). وفي هذا السياق، كان كل مواطن، مثل غيره، ينتقل بنظام تناوبي بين أماكن متماثلة تشكل جزءاً من الفضاء العام في المدينة. الفلسفة نشأت بفعل الديمقراطية في أثينا، حيث تساوى الجميع أمام القانون وشاركوا في الحكم عبر مجلس منتخب. كان لدى كل مواطن حرية المشاركة في شؤون المدينة والتفاعل مع السلطة. كان الجميع ملزماً بالالتزام بقواعد سياسية والمشاركة في الجدل العام، مع تقديم الحجج والأدلة. تلك الشروط كانت أساساً لتطور الفلسفة العقلانية. ولكن ما اللحظة الملائمة للتفلسف؟.

اختلف الفلاسفة حول هذه المسألة, وجوابهم عن هذا السؤال لم يكن محايداً, فسقراط الذي يعتز بمواطنته الأثينية ويفتخر بها كما يصرح في محاورة الدفاع , لم يكن أستاذاً يعرض أمام مستمعيه الخطوط العريضة لفلسفة جاهزة, حتى إنه لم تكن لديه فلسفة يعلمها, فكل ما يعرفه أنه (لا يعرف شيئاً) وكان هذا الاعتراف بالجهل هو جزء من استراتيجيته لتوجيه من يحاوره نحو استكشاف المعرفة التي تكمن فيهم. إذ لا يتوخى سقراط من حواراته تشييد معمار مفاهيمي أو خطاب نظري صرف، بل هو حوار ينبض بالحياة، حوار وثيق الصلة بالحياة اليومية, يحاور الجميع، يجوب الأسواق وقاعات الرياضة، ومعامل الفنانين وحوانيت التجار، يلاحظ ويناقش, معتبرا أن طبيعة الإنسان الحقيقية هي الفكر وحياته الحقيقية هي العقل. ويغدو التفلسف عندئذ عودة لهذه الطبيعة الحقيقية، إذ لا سن للفلسفة، إنها “تتجول طائرة حيثما كان” , والمتعة التي نحصلها عند التفلسف تفترض أن نكرس لها كل الوقت وكل الحياة، فلا شيء يدعونا للتسرع. أما أفلاطون فوضع شرطاً لدخول الأشخاص إلى جمهوريته، هو تعلم الرياضيات، وربط التفلسف بمرحلة النضج، بعد أن يكون المرء قد اكتسب الاستعدادات الطبيعية للتربية الفلسفية، ببلوغه سن الخمسين في الأقل. أما أرسطو، فقد امتلك أرضاً باسم أحد تلامذته نظراً لأنه ليس مواطناً أثينياً وليس لديه حق الملكية، وعلى تلك الأرض أنشأ مدرسته المشهورة باسم المدرسة المشائية. كان يقدم دروسه النظرية صباحاً أثناء المشي، وتميزت علاقة الأستاذ بالتلاميذ بأن الفلسفة لم تكن مجرد نشاط نظري بل كانت نمط حياة مكثفاً ومتشعباً يمتد إلى مجالات الحياة اليومية وليست مجرد خطاب نظري فقط.

ويسير على هذا النحو الرافض لتعلم الفلسفة من طرف الأطفال جل الفلاسفة الكبار عبر تاريخ الفلسفة. يتكرر هذا الموقف مع فلاسفة الحقبة الحديثة أمثال ديكارت, كانط وغيرهم , غير أننا نجد في هذا التاريخ مواقف متميزة أشهرها موقف أبيقور في رسالته المشهورة إلى منيسي، التي يشرح فيها إلى مراسله كيف أن تدريس الفلسفة للشباب, يخلص النفس من الاضطراب والهواجس التي تكدر صفوها, والفلسفة هي الطريق لبلوغ السعادة ولا يوجد سن خاص للإقبال على التفلسف، فلا ينبغي تأخير ذلك بدعوى صغر سننا , ففي الفلسفة صحة الروح ويتعين علينا أن نطلبها كما الفلسفة (فقرة 122) . ومن الفلاسفة الذين دعوا إلى تعلم الفلسفة من قبل الأطفال وتدريسها لهم، ميشيل دي مونتين. في أبحاثه حول تربية الأطفال، يعارض مونتين الآراء التي تقول إن الأطفال غير قادرين على الفلسفة وتعتبرهم غير مؤهلين للتفكير الفلسفي بشكل صحيح، إذ إنه يؤكد أن الأطفال قادرون على البدء في تعلم الفلسفة وأنها ضرورية في تربيتهم. إذا كان الهدف الرئيسي للتربية هو إعداد الأطفال للحياة، فإن الفلسفة تعتبر وسيلة لتحقيق هذا الهدف. وبالتالي، يجب تعليم الأطفال الفلسفة لتمكينهم من اكتساب الحذر اللازم للحياة اليومية والتعامل مع التحديات والصعوبات بكفاءة.

مع ذلك، لم تنتج دعوات هؤلاء الفلاسفة تطبيقاً فعلياً لفتح أبواب تعلم الفلسفة أمام الأطفال. لقد استغرق الأمر حتى القرن العشرين لنشهد بداية جدية في محاولة تمكين الأطفال من دراسة الفلسفة قبل سن المراهقة أو حتى قبل الصف الثاني في المدرسة الثانوية. بعد تقدم العلوم الإنسانية وخاصة دراسات علم النفس في توضيح أن الأطفال يمتلكون شخصية فريدة وقدرة على التفكير المجرد والتفكير النقدي في سن مبكرة. كذلك، زاد الوعي بحقوق الطفل، بما في ذلك حقه في التفكير الحر والتعبير المستقل. ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من هذه التطورات، كانت هناك حركة احتجاجية واسعة ضد السياسات التي استبعدت الأطفال من تعلم الفلسفة، وخاصة في فرنسا باسم (مجموعة الكريف) عام 1974 برئاسة  الفيلسوف جاك دريدا, فتحولت هذه المجموعة إلى جبهة لمقاومة الإصلاحات التي نادى بها وزير التربية الفرنسي (روني آبي) الذي أراد إقصاء الفلسفة من التعليم الثانوي.

أما في بداية السبعينيات من القرن الماضي، فظهرت تجربة فريدة من نوعها للفيلسوف الأمريكي ماثيو ليبمان في تعليم الفلسفة للأطفال، وانتشرت هذه التجربة في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك أستراليا، كندا، ألمانيا، النمسا، بلجيكا، وإسبانيا. وهذا النهج التعليمي مبني على برنامج مخصص لتعليم الفلسفة للأطفال، ويعتمد بشكل أساسي على استخدام القصص في عمليات التدريس. تهدف هذه الطريقة إلى توجيه الأطفال نحو الفهم والنقاش في مفاهيم فلسفية معينة من خلال قصص تمثل هذه المفاهيم بشكل مبسط وممتع. تمثل هذه القصص والرموز البصرية وسيلة لتوصيل المفاهيم الفلسفية بطريقة تناسب مراحل نمو وفهم الأطفال. هذه الطريقة تلقى اهتماماً خاصاً بتطوير مهارات الاستدلال لدى الأطفال، مما يساعدهم على تطوير قدرات التفكير النقدي والنقاش. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الطريقة مناسبة حتى للأطفال الذين يعانون من فقدان البصر، إذ تعتمد على الحواس الأخرى، مثل السمع، لنقل المفاهيم الفلسفية بطريقة فعالة. تمكن هذه الطريقة الأطفال من فهم واستيعاب مفاهيم فلسفية مثل الأخلاق والحقيقة والعدالة من خلال قصص تصمم خصيصاً لملاءمة مستوى تطورهم وفهمهم. كما ليست طريقة ليبمان وحدها المنتشرة والمعروفة في هذا المجال، بل هناك طرق أخرى جاءت بعدها أهمها:(  عبد الله كمال: الفلسفة والطفل, ص10) 

1: طريقة أوسكار برينيفيي: تعتمد طريقة أوسكار برينيفيي على مبدأ توليد سقراطي، حيث يقدم مفاهيم فلسفية مثل الرأي، الحقيقة، والوعي بشكل مبسط يهدف إلى تحفيز عملية التجريد في عقول الأطفال الصغار. تُقدم هذه المفاهيم من خلال سلسلة من الرسوم المصوّرة التي تصوّر مواقف تسمح للأطفال بالتعبير عن آرائهم أو انطباعاتهم أو استيعابهم لبعض الأفكار أو الوضعيات المطروحة. لاقت هذه الطريقة نجاحاً كبيراً في العالم الفرنكوفوني.

2: طريقة جاك ليفين : تعتمد هذه الطريقة استخدام مقاربة تحليل نفسي تهدف إلى تعميق تفكير الأفراد في مواضيع تهمهم، حيث تُطرح على التلاميذ في مرحلة أولى مشكلات عامة تتعلق بمسائل تأتي في مراحل متقدمة من نموهم مثل البلوغ والرشد. يُطلب منهم التعبير عن آرائهم بشأن هذه المواضيع من دون تدخل من الأستاذ في مناقشاتهم. يُسمح للتلاميذ في مرحلة ثانية بالتعبير عن آرائهم الخاصة، وتُسجل هذه المناقشات على شريط في فترة محددة، عادة تبلغ عشر دقائق لكل تلميذ. في المرحلة الثالثة، يتم عرض الشرائط لمناقشتها بشكل حر، مع إمكانية إيقاف الشريط في أي وقت لتعميق النقاش. هذه الطريقة تعتمد بشكل رئيسي مبدأ التعبير الحر من دون تدخل من الأستاذ.