جزيرة سانتوريني.. قبلة السائحين في البحر المتوسط
ليندا لابروبولو
ترجمة: شيماء ميران
حيثما تتجه بنظرك إلى جزيرة «سانتوريني» اليونانية؛ تتذكر انك فوق بركان، فالمناظر الطبيعية للقمر والشواطئ الكتسية باللونين الأسود والأحمر، والحصى المتكون من تصلب الحمم البركانية، وكل الجمال المذهل في الجزيرة ناتج عن التاريخ البركاني العنيف للمنطقة.
تشتهر سانتوريني بما يطلق عليه «كالديرا»، التي تتخذ شكلا هلاليا مذهلا، يكون نصفها مغمورا بالمياه، ما يجعلها الكالديرا الغارقة الوحيدة في العالم. (كالديرا: بحيرات بركانية كظاهرة مصاحبة للبراكين- المترجمة). تكونت هذه البحيرة من اكبر وأقوى الانفجارات المعروفة التي حدثت قبل 3600 سنة تقريبا، دمرت خلالها مدينة «أكروتيري» القديمة في سانتوريني، وتسببت بضربة قاصمة لحضارة مينو البحرية حينها. وتعد «سانتوريني» اليوم المعروفة أيضا باسم «ثيرا» من أبرز المواقع الرومانسية في اليونان، إذ تضم فللا ومنتجعات فاخرة، يقصدها المشاهير لقضاء العطل، ومكانا لإقامة حفلات الزفاف الفخمة الشبيهة بالأحلام، فضلا عن التقاط الصور. وتشكل منحدراتها البركانية شديدة الانحدار والتي ترتفع 1000 قدم تقريبا فوق مستوى سطح البحر، مع المنازل البيضاء المصطفة على حافاتها لوحة جيولوجية رائعة. فلا عجب أن تكون واحدة من أكثر المواقع المصورة على الكوكب.
تتوقف الحركة والصخب على الجزيرة كل مساء لمشاهدة منظر غروب الشمس المشهور عالميا في سانتوريني، إذ تكتظ قرية «أويا» ذات القباب الزرقاء والبيضاء بالناس مع اقتراب الساعة الذهبية؛ حيث تبدأ الشمس بالغروب خلف منحدرات البحيرة، وتتحول السماء الى عرض مبهر لألوان الاحمر والبرتقالي والوردي. ورغم مراقبة الآلاف لاختفاء آخر خيوط لأشعة الشمس من سطح المياه البحر، يدرك القليل منهم أن تحت مشهد الألوان الباعث على النوم يكمن بركان نشط.
أسرار الأعماق
تعد الجزيرة جزءاً من القوس الهيليني، وهو من أهم الحقول البركانية في اوروبا والذي شهد ثورانا أكثر من مئة مرة على امتداد أربعة آلاف قرن مضت. يقع بركان «كولومبو» على بعد خمسة أميال شمال شرق سانتوريني شرق البحر الأبيض المتوسط، ويعد الأنشط تحت الماء ومن المحتمل ان يكون خطيرا كونه جزءاً من النظام البركاني نفسه.
رغم ان مدينة كولومبو الغارقة في بحر إيجه بقيت هادئة منذ 400 سنة تقريبا، ولكنها ليست خامدة. إذ ثار فيها البركان آخر مرة سنة 1650، متسببا بمقتل سبعين شخصا، وحدوث تسونامي بارتفاع 40 قدما، وزلازل قوية وهزات ارتدادية، إلى جانب الغازات السامة وأعمدة الدخان.
قامت بعض اكبر البعثات الأوقيانوغرافية في العالم بزيارته وزادت المراقبة عليه خلال العشرين عام الماضية، لان العلماء يدركون الدمار الكبير الذي قد يحدثه انفجار كولومبو. ووصلت سفينة الحفر العميق solution JOIDES احدى أكبر سفن الابحاث الامريكية إلى سانتوريني في أول مهمة لها في البحر الأبيض المتوسط بين كانون الاول من العام الماضي وشباط العام الحالي.
يقول «تيم درويت» عالم البراكين والمشارك للبعثة إن السفينة الضخمة جلبت مختبرا عائما كاملا إلى المنطقة، ما مكّن الباحثين من الحفر على عمق أكثر من 8000 متر تحت سطح البحر، وقاموا بجمع الرواسب التي لم يتم الوصول إليها مسبقا في محاولة لإعادة قراءة تاريخ النشاط البركاني في المنطقة.
من المفترض أن تساعد النتائج التي من المتوقع صدور التقارير الاولية عنها لاحقا هذا العام العلماء ليس على التنبؤ بالانفجارات المستقبلية فقط، بل والكشف عن نشاط البراكين الاخرى في جميع انحاء العالم ايضا، والتي تعد تهديدا للملايين الذين يعيشون في المناطق المجاورة لها، اضافة الى دراسة الروابط بين الزلازل والبراكين.
شاركت «إيفي نوميكو» عالمة المحيطات الجيولوجية بجامعة أثينا، في كل رحلة استكشافية إلى سانتوريني طوال العشرين عاما الماضية. وتقول: «نحن نعمل تدريجيا على تجميع أجزاء لغز جغرافي تُظهر لنا المناطق التي كانت أرضا في الأصل، والأجزاء التي كانت مياهاً، كما تمكنّا من فهم الانفجارات الماضية وتأثيرها بنحو أفضل، فلدينا خريطة طريق لمعالجة التحديات المستقبلية بنحو أفضل».
المحيط الخارجي
لا تعد نتائج هذه الرحلة أول دراسة كبرى للمنطقة. وتوضح «نوميكو» إن الدراسة المطولة للظروف القاسية، التي وجدت في كولومبو دفعت وكالة «ناسا» لتمويل رحلة استكشافية رائدة سنة 2019، إذ وجدت في قاع الفوهة محيطا خارجيا يحتوي على أشكال حياة يمكن العثور عليها على كواكب أخرى».
كانت البيئة مختلفة مع محيطها بما تحتويه من فتحات حرارية مائية نشطة تنفث الماء الساخن والمعادن، وكأنها منطقة اختبار مثالية للتقنيات الجديدة الحديثة، باستخدام المركبات ذاتية القيادة تحت الماء. واختبرت وكالة ناسا غواصات على أمل أن تستكشف يوما محيطات غريبة على أقمار كواكب المشتري وزحل.
وكشفت دراسة أخرى حديثة عن تجويف من الصهارة لم يتم اكتشافها سابقا أسفل كولومبو(الصهارة: مواد ساخنة سائلة أو شبه سائلة داخل القشرة الأرضية تتشكل منها الحمم البركانية والصخور النارية عند تعرضها للتبريد- المترجمة). ويعتقد العلماء أن التجويف قد يكون مفتاحا لفهم النشاط الزلزالي في هذه المنطقة.
ألهمت مناظر البراكين وهي تنفث الدخان والحمم المتفجرة خيال منتجي هوليوود ليختاروا جزيرة سانتوريني كموقع لتصوير فيلم هوليوود الضخم «لارا كروفت: تومب رايدر- مهد الحياة» في العام 2003 المليء بالاثارة. ووجدت الممثلة «أنجلينا جولي» نفسها في مواقف خطرة وسط المياه الغامضة باستخدام منحدرات سانتوريني المثيرة، أثناء البحث عن الكنز تحت الماء.
بعد التصوير، أمضت «جولي» وزوجها «براد بيت» فترة إجازة في سانتوريني، وشاركهما الكثير من المشاهير، مثل: كارداشيان، وليدي غاغا، وشاكيرا، الذين غطسوا في مياه الجزيرة الصافية. تبحر اليخوت الضخمة ذهابا وإيابا كل صيف بين سانتوريني وجزيرة ميكونوس، وهي نقطة جذب اخرى للمشاهير، إذ تخصص للحفلات، وينشر صورها كبار الشخصيات في محيطهم الحصري في صور جذابة.
التنزه والينابيع الحراريَّة
قد تكون قصة حب «برانجيلينا» انتهت، لكن روح المغامرة لدى «لارا كرفت» تكمن في رحلات القوارب السياحية، ومنها زيارة بركان نيا كاميني، وهي حديقة جيولوجية وطنية وإحدى الجزر الخمس التي تشكل مجمع سانتوريني.
يقول «ماريوس فيتروس» الرئيس التنفيذي لوكالة السفر سانتوريني فيو: «مع ان آخر نشاط لبركان نيا كاميني كان في خمسينيات القرن الماضي، لكن الزوار يحبون المشي لمسافات طويلة وصولا الى فوهة البركان، وهي احدى الرحلات الاكثر شهرة. أما جولات القوارب فهي مستمرة وسط ينابيع المياه الساخنة البركانية لجزيرة باليا كاميني القريبة، مع الاستمتاع بمشاهدة غروب الشمس من على سطح السفينة المواجهة لمنحدرات سانتوريني».
وتوجد جولة اخرى إلى موقع اكروتيري اليوناني الاثري الرائع لتذكر القوة البركانية، إذ دمر ثوران البركان قبل 3600 عام المدينة المزدهرة التي تعود إلى العصر البرونزي، فقذف أعمدة من الرماد والصخور على ارتفاع 32 كم تقريبا، ودفنت المدينة. وبعد نحو 1700 سنة، حدثت كارثة مماثلة ودمرت مدينة بومبي.
واليوم، وبعد إزالة الرماد والحمم البركانية، بقيت اللوحات الجدارية ذات الالوان الزاهية في اكروتيري محفوظة بشكل جميل.
البركان الهائج
شهدت سانتوريني نتيجة شهرتها العالمية اكبر الاستثمارات السياحية في البلاد. فكان من بين العلامات التجارية التي وصلت إلى الجزيرة في السنوات القليلة الماضية هما «هيلتون ونوبو»، واصبحت اسعار العقارات في الجزيرة من بين أعلى الاسعار في اليونان.
مع ذلك، يحذر الجيولوجيون المراقبون من ان ثوران البركان مجرد مسألة وقت. ومع ان «الوقت» في السنوات الجيولوجية قد يكون بطيئا للغاية. يقول احد وكلاء العقارات في الجزيرة الذي رفض الكشف عن اسمه: «ان النشاط البركاني لا يدخل في الحديث مطلقا عند بيع عقار».
وفي حال ثوران بركان كولومبو سيرتفع العمود الناتج عنه الى عشرات الاميال، كما يمكن أن يولّد تسونامي. لقد أثار نشاط البركان المتزايد منذ 10 سنوات تقريبا المخاوف لكنه تراجع عن نشاطه منذ ذلك الحين.
يقول درويت: «إذا بدأنا نرى تزايد النشاط في كولومبو، فينبغي علينا أن نتأهب، والمفرح أن البراكين تعطي الكثير من التحذيرات».
وفي الوقت ذاته، كشفت وكالة الحماية المدنية اليونانية في العام 2020 عن خطة مكونة من 185 صفحة لمعالجة عواقب النشاط المحتمل لمجموعة سانتوريني البركانية.
الطعام والنبيذ البركاني
لا يشغل البركان تفكير السكان المحليين في حياتهم اليومية. تكون الجزيرة مكتظة صيفا ولا تزال السياحة فيها من اكبر التحديات، إذ يستمر شكل الجزيرة الفريد في جذب حشود السائحين. حتى ان الاتحاد الدولي للعلوم الجيولوجية بالتعاون مع اليونسكو أدرجا في العام الماضي «كالديرا سانتوريني» ضمن القائمة الاولى لأفضل مئة موقع للتراث الجيولوجي العالمي.
إضافة إلى الفنادق والمطاعم في الجزيرة، ترتبط جميع الاعمال التجارية فيها بالبركان. فمثلا تُصنّع مستحضرات التجميل محليا وتكون مليئة بالمعادن، فضلا عن زراعة مكونات غذائية متميزة في تربتها الفريدة من نوعها، إذ يوجد معرض مخصص لطماطم سانتوريني الكرزية، كعلامة مسجلة للمنتج الاصلي منذ العام 2006، كما يعد الفول المدمس الموجود بالجزيرة هو الافضل في اليونان.
كما تشغل مزارع كروم العنب خُمس مساحة الجزيرة البالغة 78 كم مربع تقريبا، ويزرع معظمها نوعا يسمى أسيرتيكو، وهو عنب ينتج النبيذ الابيض.
تعد المنازل الشبيهة بالكهوف المحفورة في الصخور البركانية، والتي تسمى «يبوسكافا»، من الاماكن الرئيسة التي يقصدها الباحثين عن قضاء شهر العسل او عطلة الاحلام. أما «نوميكو» التي نشأت في الجزيرة، فان «كولومبو» كانت تظهر في احلام طفولتها، وتعلق قائلة: «لقد تأثرت كثيراً بقصص جدي وجدي الأكبر. فقد تذكروا الانفجارات الصغيرة التي وقعت في جزيرة نيا كاميني، لكنهم أصروا على إن ما يدعو للقلق هو البركان الذي لا يمكنك رؤيته. وأصبحت أدرك تدريجيا أن هناك بركانا اخر أكثر قوة وغموضا وخطورة تحت الماء، ومن المستحيل معرفة ما إذا كان أيا منا سيشهد ثورانا كبيرا، ولكن في مرحلة ما، سيكون هناك ثوران».
عن موقع سي أن أن الأميركي