محمد صابر عبيد
شدد كثير من المشتغلين في حقل المعرفة على جوهر العلاقة بين الفلسفة والشعر بوصفهما حقلين متلازمين تلازماً شديد الالتحام والتعشيق، وثمة عناصر كثيرة ذات طبيعة معرفيّة وجماليّة تجمع بينهما في طبقات مختلفة قد لا تبرز بسهولة، على الرغم مما يبدو من تقاطع وتضاد بين فعاليتين تجنح أحداهما إلى فضاء الغنائيّة والجمال والسحر اللغوي والتعبيري، في حين تجنح الأخرى إلى النقيض من ذلك متوغلة في فضاء المنطق والحجاج والتعقيد التشكيليّ والتعبيري، داخل منظومة معرفيّة نظرية وثقافيّة توهم غيرَ العارف أن اللقاء بينهما يمكن أن يدخل في باب الاستحالة، إلا أن العارف المطلع على جوهر هذه العلاقة سيدرك حتماً تلك اللحظات الخاطفة التي يكون فيها الشاعر فيلسوفاً، أو الفيلسوف شاعراً.
سبق لأفلاطون -كما هو معروف- أنّه طرد الشعراء من مملكته بدعوى رؤيته الخاصّة المضادّة للشعر، إذ يرى الشعر نقيضاً للفلسفة ولا بدّ من إيقاف السيل الوجدانيّ البشريّ عند حدّ معيّن لا يبلغ فيه طبقة العقل فيفسدها، ليتحوّل الشعراء على صعيد الفكرة منذ ذلك الوقت إلى صعاليك يدافعون عن نموذجهم خارج الجمهورية العقليّة الأفلاطونيّة الرصينة، وربّما كان هو الفيلسوف الوحيد الذي وقف هذا الموقف من الشعر؛ في الوقت الذي كان فيه مفهومه للشعر غير ما نعرفه الآن من مفهوم مغاير بالتأكيد، إذ انفتح جلّ الفلاسفة الذين جاءوا بعده على فضاء الشعر وتعاملوا معه على وفق رؤية منطقيّة وعارِفة، وسعوا إلى الإفادة من طاقة الشعر في ميادين فلسفيّة عديدة لا يمكن حسم إشكاليّاتها من دون حضور مفهوم الشعر.
تناول كثير من المشتغلين في حقل المعرفة الإنسانيّة ثنائيّة العقل والوجدان، بوصفها الثنائيّة الأرجح لبناء الشخصيّة الإنسانيّة القابلة للتطوّر والنموّ، لأنّ العقل بما ينطوي عليه من أفكار وقيم واعتبارات كفيل بأن يقدّم للشخصيّة الإنسانيّة ما يعنيها على مشكلات لا حصر لها في الحياة، لكنّه في الوقت نفسه غير قادر على حلّ مشكلات أخرى بعينها لأنّ أدواته قاصرة عن التوغّل في متاهاتها العرفانيّة الغيبيّة، ولا بدّ له من الاعتماد على فكرة أخرى تبدو للوهلة الأولى غير عقليّة بوسعها أن تجد الحلول لما لا حلّ له في المنظور العقليّ، ويمكن وصف هذه الفكرة في الحدود الأولى للنظر بـ “فكرة الإلهام”، التي لا يمكن الحصول عليها من حاضنة العقل، فتتجه الأنظار نحو الفضاء الوجدانيّ حيث يكمن الشعر لإيجاد فرصة يلتقط فيها العقل صوت الشعر، ويسهم في حلّ ما يستعصي عليه من ألغاز عابرة لطبقات العقل.
تقترح الفلسفة أساليب أخرى لتجربة الفهم تقوم على سلسة من الآليّات والفعاليّات والإجراءات توصل إلى منصّة المعنى، على النحو الذي يكون فيه الفهم اختراقاً لآفاق النصّ بحثاً عن الجوهر الذي تثوي فيه المقاصد العليا في أرفع حالاتها، ولا تبتعد هذه الأساليب في أشكالها ومضامينها العامّة عن تلك التي تشتغل في ميدان الشعر، فالشعر مثل الفلسفة يتعامل مع المحيط والأشياء بأدوات فهم خاصّة لا تفترض بلوغ معنى نهائيّ وحاسم، بل تنطوي على تجربة فهم أوسع وأعمق وأكثر جدلاً من تجربة الفهم لدى الفنون الأدبيّة الموازية، فلا حقائق مقفلة في مساحة الفلسفة أو الشعر بما يجعلهما معاً ضدّ الحقائق المغلقة أصلاً، وكلاهما يعمل على اختراق الظلام وتقويضه لصالح إشراقات تنويريّة تُبهج العقل وتُنشّط خلايا الروح.
لا يغدو الكلام حميمياً وقابلاً للتأثير في طبقات العقل والجسد والروح البشريّة إلّا حين يتكثّف في أعلى درجة ممكنة من الاكتظاظ، على النحو الذي يقرّب حساسيّة الفلسفة من حساسيّة الشعر إلى الدرجة التي يتحوّل فيها الشاعر إلى فيلسوف، والفيلسوف إلى شاعر، داخل لحظة استثنائيّة خاطفة ترتفع فيها الحميميّة إلى درجة صفاء لا تتكرّر؛ من حيث الشكل والصورة والمعنى والرؤية والفضاء والقيمة وكلّ شيء تقريباً.
وُلِدَ الشعر مع انطلاقات الإنسان الأولى في مرافقة حميميّة تيسّرت له سبل التعامل مع الطبيعة في أقسى أشكالها، إذ أخذ الإنسان - بما يمتلك من عفويّة وبدائيّة وأوّليّة- يتحسّس طريقه نحو الحياة؛ متوجّهاً إلى ما حوله؛ للدفاع عن وجوده بالقوّة التي يسعه اكتشافها في ذاته، فكان الشعر أحد هذه الأسلحة الروحيّة التي ساعدته في صوغ فضاء الحميميّة المطلوب لاستمرار الحياة بأقلّ ما يمكن من الخسائر، وبعد أن قطع أشواطاً في الارتفاع بشؤونه ومشاغله الإنسانيّة -توكيداً لوجوده البشريّ- حلّت الفلسفة ضيفاً جديداً عليه.
الفلسفة إذن تالية للشعر في عالم الوجود لارتباطها بنموّ العقل ونضجه وشروعه بإطلاق الأسئلة الكبرى، وحين وُلِدتْ وجدت أنّ الشعر يهيمن على الأشياء ويفرض قوانينه عليها؛ مما دعا أفلاطون عرّاب الفلسفة الإغريقيّة إلى طرد الشعراء من مملكته، كي يهيئ المكانَ للفلاسفة في عمليّة فصل قسريّة بين العقل والروح لم يُكتب لها النجاح طويلاً، إذ سرعان ما غيّر أرسطو المسار وتعاملَ مع الشعر برؤية مخالفة لأستاذه أفلاطون مُقرِّباً بين الفلسفة والشعر، وانفتح مجال جديد لعصر جديد تتفاهم فيه الرؤية الفلسفيّة مع الرؤيا الشعريّة، بحيث يكون لغموض الفلسفة معنى خاصّ لا يُدركه إلّا من بلغه بقوّة المعرفة العقليّة، مثلما لغموض الشعر معنى خاصّ موازٍ لا يبلغه إلّا من دُفِعَ إلى مضايقه، في طرائق تلقٍّ وفهمٍ شديدة الحميميّة والدهشة والفعل الاستثنائيّ الخارق والمميّز.