ما لا يُصلِحهُ الرَّجلُ «الفوتوشوب»

ثقافة 2023/11/02
...

 طالب عبد العزيز 

                              

أشفقتُ على أبي وعمّي وأخي، ولم أجرؤ على نشر صورة فوتوغرافية لهما، فالصورة ستينيةً، ومما عثرتُ عليه من مدخراتهم، أو ما آل لي، ولم يحملوه إلى هناك، إلى الرملة المحرقة البعيدة. كنتُ وقفت على ما سقط عليهم من الحيف، بتوالي السنين، من شقاء وكد، فالصورة لا تمنحُ معاينها شيئاً من الدعة والطمانينة، فقد اتضح أنهم لم يكونوا هيّؤوا أنفسهم لالتقاطها، فهي مأخوذة بارتجال، لا أعرف أيَّ مصور ساذج، وغير مؤدب، التقط لهم الصورة، غير الإنسانية هذه، فقد كانوا حفاةً، وبثياب فلاحين، عادوا من بساتينهم توّاً، وهناك ما بدا ممزقاً في الاكمام وفي الصدر وعند الرُّكب، ولم يحسن أيُّ واحد منهم غطاء رأسه، اللهم إلا أبي، فقد كان بحال مختلف، فهو يرتدي العقال، ودشداشته على شيء من الأناقة، وبفمه سيجار محليّ، ذلك لأنه لم يعد يعمل، أو لم يكن يعمل، أما عمّي وأخي فالصورة مما يُختزى به في الأيام هذه.  وبحسب سوزان سونتاغ، فأنَّ «الزمنَ يضعُ أغلب الصور الفوتوغرافية، حتى تلك غير البارعة جداً في مرتبة الفن»، لكنني، غير معنيٍّ بموضعها في الفن، إنما، أريدُ الوقوف طويلاً عند الأقدام الحافية تلك، التي أكلت الارضُ ملامحَها، فتسطحت ويبست، وأقيس الزمن بعدد الخطى، التي أمضوها، رائحين وغادين، على القناطر، ومن هناك، حيث يكون النخل، ويكون الماء، وحيث تزهر وتكون البساتين، إلى هنا حيث البيت طين وسعف وحنوٌّ وغدوٌّ وآصال، أقلبُ الاكفَّ التي حرثت وسقت وجنت وجاءت بكل ما كان ينعاً وثمراً ومروءة، أريدُ أنْ أنقلَ الصورة من رثاثتها في الزمن إلى نقائها في الروح، فلا يشينني منظرهم فيها، بعيداً عن سونتاغ وفنية الصورة الى حيث أكون مِعوزاً ومديناً الى الذين فيها.

سأقول بأنني أطلتُ النظر فيها، وحاولت تقريبها مراراً، أردتُ أنْ أمدَّ يداً من لطف، تزيح غبار السنوات، وتصافحُ الأيدي بعروقها الناتئة، تزيل الغربة ووحشة المكان، بخلفيته غير المعتنى بها، أعرفُ أنَّ إطالة النظر بالصورة بالفوتوغراف، مهما بلغت درجة وحشيتها إنما تزول بتكرار المعاينة، وأنّ عربة المعاني ستفرغ نواياها المضطربة والسيئة حال اقترابنا من الوجوه، التي فيها. تعمل العين أحيانا على رج سائل الروح بالقدر الذي عملت فيه على تبلده في الجسد. لكنني، ولكي أضفي على هؤلاء الوقارَ والمهابة، فكرتُ بأخذ الصورة الى الرجل الفوتوشوب، هكذا، مثلما يفعل كثيرون بصور آبائهم وأجدادهم، فيخلع الرجلُ هذا على حقيقتهم زيف ما لم يكونوا عليه، يلوّن الوجوه، ويحسِّنُ الشعرَ، ويهذّب الثياب، وربما لاءم جرحاً قديماً في جبين، أو عضة على كف، وساوى بين شاربين، واستبدل حائطاً طينياً بآخر من حجر ملوّن بزخارف.   

  إذنْ، سأذهبُ إلى صورة أخرى، تظهرُ فيها أمّي جالسةً، عند عتبة باب الدار حيث ولدت، وقد مدت رجليها خارج الضوء، تاركة نصف جسدها في الظلام، قصيرة وشعرها أبيض، وقد ضؤلت كثيراً، لم تعر ابنة حميها بالاً، فهي تروح وتأتي، تحمل زنبيلاً من الخوص، أو تفرغُ جرّةً. الصورة لم تكن موحشةً كتلك، هي من أعمال سبعينيات القرن الماضي ربما، لكنَّ المصور ذاته، بالسذاجة ذاته، لم يحسن اختيار المكان، ولم يُعلم أمّي بالتقاط الصورة حتى، ربما أرادها أن تبدو تلقائية جداً، دونما شعور منه بأنَّ التلقائية قد تفسد المشهد. يتقدم الفوتوغرافي خيال الجمال في اللحظة التي يقدم فيها أكثر البراهين على سذاجته، وهو بهذه يقدِّم براهينه على بشاعة وتوحش الزمن. كل الصور التي التقطت لهؤلاء كانت في بيتنا القديم، أحيانا أقول: كيف تسنّى لي إمضاء الطفولة والصبا هناك؟ وكيف استطاعت حياطين الطين والقصب المسقّفة بالجذوع احتمال ما كنتُ أعاين وأقرأ وأتطلع له؟ لكنني سألجأ الى قول: نحن صورة فوتوغرافية، التقطت بالأبيض والأسود، أما ملامحنا فقد تستعصي على يد الرجل الفوتوشوف كثيراً.