أنفاق غزة.. عملاق يلوح للقوات البرية الإسرائيلية

قضايا عربية ودولية 2023/11/02
...

 ترجمة: أنيس الصفار       

 آدم غولدمان وهيلين كوبر وجاستن شيك

بعد منتصف ليل الثلاثاء مباشرة أعلن الجيش الإسرائيلي أنه قد أصاب نفقاً كان يسمح لحماس بالتسلل إلى إسرائيل عبر البحر، على حد تعبير الناطق الإسرائيلي.

هذا النفق البحري لم يكن شيئاً معتاداً بل دلالة على أن حماس قد وضعت خططاً لأساليب جديدة مهلكة في مهاجمة إسرائيل. فهذه الجماعة المسلحة لديها أميال وأميال من الأنفاق الممتدة تحت قطاع غزة يشبِّهها أحد المسؤولين الأميركيين بمدينة مصغرة، لكن فتحة الخروج من هذا النفق بالذات كانت تؤدي إلى الشاطئ.

من بين الأسباب المحتملة لتأخير إسرائيل إرسال جنودها إلى قطاع غزة عقب هجوم حماس في 7 تشرين الأول يبرز سبب مهم، كما يقول الخبراء العسكريون، هذا السبب هو: الأنفاق.

تحت هذا الشريط الساحلي الصغير الذي يسكنه أكثر من مليوني إنسان تترامى في كل اتجاه شبكة واسعة من الممرات تحت الأرض.. غرف.. وحجرات.. وحتى طرق لسير المركبات. ومن المعتقد أن حماس، التي تشرف على إدارة غزة، تخبئ هناك أسلحة ومقاتلين، ولديها حتى مراكز قيادة في تلك الشبكة من الأقبية تحت الأرض.

خلال ليل السبت قصفت الطائرات المقاتلة الإسرائيلية نحو 150 هدفاً تحت الأرض شمال قطاع غزة، وفقاً لما أعلنه الجيش الإسرائيلي، لأن الأنفاق بالنسبة للقوات الإسرائيلية التي ستشارك في أي عملية غزو بري واسعة النطاق ستكون التحدي الأصعب إذ أنفقت حماس السنوات في إعدادها وصقلها. أما بالنسبة لمن يعيشون على الأرض فوق تلك الأنفاق فإن أحد أعظم مخاوفهم المتخيَّلة هو كيف سيستطيعون النجاة لو نشبت الحرب تحت الأرض.

يقول الجنرال “جوزيف فوتيل” القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية المسؤولة عن منطقة الشرق الأوسط: “يجب ألا نخدع أنفسنا بشأن الصورة التي سيكون عليها الموقف، فالقتال سيكون دموياً شديد الضراوة. “

في مقابلة أُجريت معه استعاد فوتيل ذكريات الأيام الأخيرة من معركة مدينة الموصل العراقية عندما كان مقاتلو “داعش” يختبئون داخل سلسلة من الأنفاق، كان ذلك في العام 2017. قال فوتيل: “كان الجنود العراقيون يستخدمون البلدوزرات لشقِّ طريق لهم لأن مقاتلي داعش كانوا يتخندقون في حفر وسط الركام بمعنى الكلمة. لقد كان قتالاً عنيفاً بحق. “

على مدى السنوات كانت الأنفاق جزءاً من الحياة في غزة، بيد أنها ازدادت كثرة بشدة بعد العام 2007 حين تولت حماس السيطرة على القطاع وضيَّقت إسرائيل الحصار عليه. كان رد الفلسطينيين على ذلك هو إنشاء مئات الأنفاق للاستعانة بها على تهريب المواد الغذائية والبضائع والأشخاص والسلاح.

يقدِّر الجيش الإسرائيلي أن كل نفق تبنيه حماس يكلفها نحو 3 ملايين دولار. بعض الأنفاق يُشاد من الخرسانة الجاهزة والحديد المشكّل مسبقاً، وهي تحتوي على غرف للعناية الطبية تؤمن الإسعافات للمقاتلين الجرحى، في حين تكون لبعضها الآخر مساحات مناسبة على عمق 40 متراً تحت الأرض تسمح للأشخاص بالاختباء لمدة أشهر. ويرمز الناس في إسرائيل لنظام الأنفاق باسم “

غزة السفلى” أو “المترو”.

وصفت “يوشيفيد لفشتز”، وهي المرأة البالغة من العمر 85 عاماً التي احتجزتها حماس رهينة لمدة 17 يوماً هذا الشهر، كيف سارت لمسافة كيلومترات عديدة عبر “شبكة عنكبوتية” من الأنفاق، حسب وصفها، وحدثت الصحفيين كيف اقتادها مقاتلو حماس عبر تلك الممرات الرطبة تحت الأرض إلى أن أدخلوها إلى قاعة واسعة اجتمع فيها 25 شخصاً من المحتجزين. بعد ساعتين أو ثلاث من ذلك، كما تقول، وضعوا خمسة أشخاص من نفس الكيبوتس في غرفة منفصلة.

في مؤتمر صحفي عقد يوم الجمعة الماضي ادعى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الأدميرال “دانيال هاغاري” أن حماس قد قامت ببناء أنفاق ومنشآت أخرى تحت مستشفى الشفاء في غزة، وهو أكبر مركز طبي في المنطقة. بعد ذلك أدار تسجيلات صوتية وعرض صوراً إيضاحية للمجمَّع المزعوم تحت الأرض.

يقول الجنرال فوتيل، الذي سبق له أن زار نفقاً لحزب الله اللبناني قرب الحدود الإسرائيلية، إنه صُدم من حجم الجهد المبذول في بناء ذلك الشيء. قال: “لم يكن ما رأيته مجرد حفرة في الأرض بل قطعة هندسية. فقد كانت هناك غرف متصلة به مبنية على نحو يمكِّنها من تحمُّل عمليات القصف فوق السطح. “

مضت حماس في توسيع نظام أنفاقها تحت الأرض، وكانت تخفي المداخل المؤدية إلى الأنفاق في المنازل وغيرها من المباني الصغيرة على الجانب المصري من الحدود، كما يقول “جويل روسكن” استاذ علم الجيولوجي في جامعة بار إيلان في إسرائيل الذي قام بدراسة الأنفاق خلال فترة خدمته في الجيش الإسرائيلي. تلك الأنفاق كانت تسهل تهريب البضائع والمواد من مصر، وكانت شبكتها تمتد إلى الحدود الإسرائيلية في الشمال.

قبل نحو عقد من الزمن بذلت مصر جهوداً كبيرة لتدمير الأنفاق على طول حدودها حيث قامت بإغراق بعضها بمياه المجاري وسوت المنازل التي تخفي المداخل بالأرض، كما يقول روسكن.

يضيف روسكن أن إسرائيل لا تملك سوى رؤية محدودة عن نشاط الأنفاق على الجانب المصري من الحدود. كثير من تلك الشبكات تنتهي في شمال سيناء، ولكن الحكومة المصرية نادراً ما تسمح للباحثين أو المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين بزيارة المنطقة، لذا ليس من الواضح كم من تلك الأنفاق العابرة للحدود 

لا يزال قائماً.

في 14 تشرين الأول نشرت حماس مقطع فيديو يظهر مجموعة من المقاتلين وهم يثبون خارجين من الأنفاق ليشنُّوا هجوماً صورياً على دبابات إسرائيلية وسط إيقاعات موسيقية حماسية. بعد ذلك يقوم المقاتلون في الفيديو بسحب الأسرى الإسرائيليين من داخل دبابتهم ودفعهم إلى داخل الأنفاق قبل أن يدخلوا إليها هم أيضاً.

في النهاية يختتم الفيديو قائلاً: “هذا هو ما ينتظركم عند دخولكم غزة. “

تقول “دافني رتشموند باراك” خبيرة حرب الأنفاق في جامعة “رايخمان” في إسرائيل، إنها تشكُّ في أن يكون هناك من يعلم عن يقين كم يبلغ الطول الكلي لأنفاق حماس، لكن بعض المحللين يقدِّرونها بمئات الكيلومترات. وفي العام 2021 قال زعيم الحركة في غزة يحيى السنوار : إن هناك 500 كيلومتر من الأنفاق الممتدة تحت غزة.

في العام 2018 قام الجيش الإسرائيلي بتدمير نفق بلغ امتداده أكثر من كيلومتر ونصف.

بعض الأنفاق ينفَّذ باستخدام معدات الحفر الميكانيكية، لكن الأنفاق التي يعتقد أن حماس تتخذها قواعد انطلاق لهجماتها على إسرائيل يتم حفرها باليد أو باستخدام المعاول والمجارف، كما يقول المسؤولون، تجنباً لاكتشافها، وتضاريس المنطقة ذات الطبيعة الرملية تسهّل نحت مثل هذه الأنفاق.

تبلغ الأبعاد النموذجية للأنفاق التي يتحرك عبرها مقاتلو حماس نحو ستة أقدام ونصف ارتفاعاً وثلاثة أقدام عرضاً، وفقاً للخبراء. قلَّة العرض مقصودة حيث أنها تصبح كابوساً بالنسبة للجنود الذين سيضطرون إلى التحرك فيها على شكل طابور.

تقول السيدة “رتشموند باراك”: “من الناحية الدفاعية يشكِّل هذا التصميم تحدياً عملياتياً للقوات الإسرائيلية. “

يقول الجنود والضباط الذين سبق لهم العمل في الماضي بتطهير أنفاق داخل غزة إن الجيش يحجم عادة عن إرسال عناصره إلى داخل الأنفاق. وتقول السيدة رتشموند باراك: “حماس قد أعدت أنفاقها ومن المحتمل أنها الآن 

مفخَّخة بالمتفجرات. “

لكن العقيد “أمير أولو” القائد السابق لوحدة الهندسة القتالية من قوات النخبة المعروفة باسم “ياهالوم”، وهي الوحدة المسؤولة عن هدم الأنفاق، يقول:  إن مسألة الفخاخ المتفجرة ليست مجرد “احتمال”. فالعقيد أولو سبق له أن شارك في العمليات الإسرائيلية في 2014 التي أطلقت عليها تسمية “الحد الحامي” والتي كان هدفها المعلن هو تدمير نظام أنفاق غزة خلال الغزو البري الذي استمر لمدة أسبوعين.

يضيف أولو أن الفخاخ المتفجرة، التي عادة ما تكون قنابل تفجر عن بعد أو حين يطأ أحد سلك التفجير، كانت مزروعة في كل مكان. وفي العام 2013 أُصيب ستة جنود إسرائيليين بجروح وفقد آخر بصره جرَّاء انفجار فخ ملغم أثناء محاولتهم إدخال كاميرا إلى أحد أنفاق حماس.

يقول الجنود الذين سبق أن عملوا في تطهير الأنفاق إن الدخول إلى نفق من هذه هو آخر ما يتمنون الوقوع فيه. قال العقيد أولو في مقابلة أُجريت معه: “عن طريق الأنفاق يستطيع العدو أن يحيط بنا ويهاجمنا من الخلف. “

يقول “بين ميلتش” وهو إسرائيلي من أصل أميركي شارك في تطهير الأنفاق مع الجيش الإسرائيلي في حرب غزة 2014، إن وحدته كانت تتعرض لإطلاق النار بشكل متكرر أثناء قيامها بمهمة تدمير نحو 13 نفقاً.

في البداية، كما يقول ميلتش، لم يكن هو أو أي من الجنود الذين معه يعلمون أين يجب أن يفتشوا بحثاً عن مداخل الأنفاق، التي تكون مموَّهة عادة في مناطق يكثر فيها الناس مثل المساجد والبيوت. لكنهم بعد ذلك بدؤوا يميزون بعض الدلالات التي تشي بوجود مدخل قريب، مثل نظام بكرات الرفع بجوار المبنى.

يقول المسؤولون العسكريون إن القصف الجوي والمستشعرات التي تعمل عن بعد قادرة على تدمير الأنفاق، ولكن لابد لإسرائيل في نهاية المطاف من إرسال جنود للتثبُّت من تدمير الشبكة تماماً .

ورد في تقرير لمؤسسة “راند” حول حرب غزة 2014 ما يلي: “مواجهة تكتيكات الأنفاق تتطلب مشاركة القوات البرية. فحتى بعد انتهاء عملية الحد الحامي بقي الجيش الإسرائيلي يواجه تحديات تقنية حقيقية في العثور على الأنفاق والقتال داخلها ثم تدميرها في نهاية المطاف. “

ثمة وحدة عسكرية في الجيش الإسرائيلي متخصصة بأساليب الحرب تحت الأرض تسمى “سامور” (أي ابن عرس) وهي تتدرب داخل إسرائيل على أنفاق مصطنعة تحاكي الأنفاق الفعلية. ويقول أحد جنود الاحتياط الإسرائيليين في الضفة الغربية إن هناك وحدات أخرى من المشاة تتدرب أيضاً على أساليب حرب الاأنفاق. 

يصف هذا الجندي واحداً من الأساليب المتبعة يطلق عليه “الشعرة الأرجوانية” وهو يستخدم لتحديد امتدادات النفق وتفرعاته، حيث يلقي الجنود الإسرائيليون قنابل دخان داخل النفق ثم يراقبون ظهور الدخان الإرجواني اللون من أحد المنازل في المنطقة. يقول الجندي إن الدخان إشارة دالة على المنزل المرتبط بشبكة الأنفاق والذي ينبغي إغلاقه قبل نزول الجنود إلى النفق. يتحرك الدخان عبر نظام النفق مثل خصلات من الشعر، كما يقول الجندي.

بيد أن الأنفاق البحرية تمثل توجهاً مستقبلياً خطيراً، كما تقول السيدة رتشموند باراك. ففي العام 2018 دمرت إسرائيل نفقاً يمتد في البحر لمسافة أمتار. ربما كان ذلك هو أول نفق يتم اكتشافه من هذا النوع، ومن المحتمل أن يكون غواصو حماس قد استخدموه للعبور إلى المياه الإسرئيلية دون أن يكتشفهم اأحد.

في الأسبوع الماضي، وبعد إعلان الجيش الإسرائيلي عن تدمير نفق يؤدي إلى البحر عاد فنشر مقطع فيديو لحادثة أخرى مماثلة. يقول المسؤولون إن المقطع يُظهر القوات الإسرائيلية وهي تقصف بالقنابل غواصي حماس الذين خرجوا من النفق على طول ساحل غزة محاولين الدخول إلى إسرائيل بالقرب من شاطئ زيكيم.

تقول السيدة رتشموند باراك: “لا تنفكُّ حماس عن الابتكار في مجال الحرب تحت الأرض وهي تستغل معرفتها وقدراتها بطرق جديدة ومبتكرة. “ 


*عن صحيفة “واشنطن بوست”