سقراط: عرفتُ أنِّي لا أعرف

ثقافة 2023/11/05
...

 ميثم الخزرجي

لعل المحاكمة الأشهر التي مررت لنا عبر التاريخ المعرفي منذ حيازة السؤال الإشكالي والإمساك بمضمونه تمثلت بسقراط صاحب السبق والزعم الناقد، حيث أعطت هذه المحاكمة سمة اعتبارية أحاطت بالمجمل الكلي للإنسان في ماهية تأسيس حياة تليق به. وقد دفع هذا الدرس القيمي المسمى (الدفاع) تلميذه أفلاطون لتدوين سلسلة الاتهامات التي لحقته من قبل الأثينيين، والتي كانت تدور حول تسفيه دور الآلهة وتسويف أفكار الشباب والتقليل من شأن الديمقراطية التي كانوا يتبجحون بها في حينها، ولكن على الرغم من ذلك لم يك الأثينيون يرغبون بإعدامه أو تسميته شهيداً، فقد كان بإمكانه الهرب متجنباً شراب الشوكران السام غير أنه ترفع عن ذلك -ولو أنه أهمل محاولاته في التنديد بالنظام الحاكم لكانت نهايته غير ذلك.

سقراط الذي تجرّع السم بكامل هيبته من دون أن يتماهى مع السائد أو يتراجع عن آرائه التي أصبحت فيما بعد دستوراً في البحث عن الفضيلة والعدالة والمساواة، رافضاً المساومة أو دفع غرامة مالية للعفو عنه، مصرّاً على أن مثل هذه التصرفات اعتراف منه بالذنب ساعياً إلى إعطاء رفعة لآرائه غاية في الوصول إلى الحقيقة ونكاية بسياقات متوارثة قوّضت عمل الفرد وجعلته تابعاً، أوضح ماهية فلسفته بعدَّه محاور عرضها أثناء المحاكمة والتي تتمخض عن طرح جدلي له معطياته الإنسانيّة والمعرفيّة في آن واحد.
 ينص المحور الأول على مبدأ الحكمة الحقيقيّة، بمعنى (معرفتك بأنّك لا تعرف) وهذا دليل عقلي يؤيد بأن الفيلسوف صاحب مشروع سائر غير مذبذب يسعى إلى معرفة الأشياء في كنهها القيمي. وقد أوجز سقراط حديثه لما شاع وقتئذ، بأن رجال السياسة هم أكثر حكمة من غيرهم مانحاً رأيه (أنا أرفع منهم حكمة كوني عرفت بأني لا أعرف)، وهذه الرؤية لها دلالتها الجوهريّة في النزوع الجاد نحو الكسب المعرفي من دون هوادة أو تريث، فمهما وصل الكائن البشري في سعيه للكشف عن عمق المفاهيم المتعلقة بالحياة والتي تحيطه في جميع تفاصيلها لكن فهمه ما زال قاصراً لها، لذا توجّب عليه الإطاحة باليقين المغلوط والمراتب المزيفة، ليكون المفاد هو التفاوت في مستوى النضج والإدراك. فلو توقفنا عند أصل الشر والخير وما يصطف معهما من استفهامات لوجدنا أن ثمة رؤىً ومتبنيات متضاربة من ناحية المنظور الفكري الذي يفهرس سمات كهذه، لذا فإن درجة اليقين نسبية غير خاضعة للتسليم، وهنا أقصد كجهاز مفاهيمي تابع للإنسان نفسه إلّا في جزئيات معينة يكون العقل حاضراً فيها بقوة. وقد نوّه سقراط أيضاً إلى وعي الشعراء الكاذب والذين يوهمون الناس بداعي الإلهام وكأنّهم عرّافون يقرضون الشعر ليس عن طريق الحكمة، بل الزوبعة الفارغة أو كحال أصحاب المهن الحرفية الذين يعتقدون بأنّهم يصلون إلى المعرفة اليقينيّة
بوساطتها.
أدرك سقراط بأن لا يمكن الوصول إلى الحقيقة عن طريق الصنعة كونها تخضع إلى المخيال المجرد الذي يتعكز على الوهم والخداع وتنويم الذهن، على الرغم من أن هذا المحور ذو بعدٍ جدليٍ عالٍ بأنساقه الفلسفيّة إلّا أنّه جاء ردّاً على ما قالته كاهنة معبد ابولو في دلفي، بأن سقراط أحكم الناس وأكثرهم دراية في استقراء المآل وقراءته له، وفقاً لاعتبارية الأسئلة التي راح يطرحها في أسواق أثينا، غير أنّه أقرَّ بهذه المعرفة التي يأتي من ورائها الإيمان بعدم المعرفة.
 المحور الآخر هو التوجه للحكمة والعناية بها على أنّها أساس الإنسان وتقويم مسارة، فقد كان الاهتمام بعامة الناس وإقناعهم بترك الملذات الجسديّة وجمع الثروات والانهماك بتحسين الجانب الذي يعنى بالعقل كون الفضيلة هي التي تأتي بالمال والشهرة والترف، وهذه الدعوة التي عرضها سقراط في المحكمة.
 المحور الثالث هو تنديد سقراط بقرار الأثينيين الذي حُكِم عليه بالإعدام معلقاً على القرار «أنهم يخطئون بحق الاله» مشبهاً حاله وكأنّه ذبابة توخز الخيل المتكاسل أو المتباطئ عن الحركة لتنشط قدرته، وهذا تصريح جلي وواضح على أنه الرجل الذي يثير حفيظة الراكد والحتمي، والناقد لمنظومة الدولة، لذا -يقول سقراط- يجب الصفح عني وعدم التعرض لي مرة ثانية، خطابه في هذا الجانب ينم عن تحذير لا تتخلله المهادنة كونه العرق المعرفي المخلص الذي يحاول إزالة الكد والمعاناة من ذهنية الإنسان الأثيني، فما مبيّتٌ في مضمراته صار يبشّر به علناً من دون قيد، هذه الدعوة التي أعلنها على الملأ في دفاعه دوّنها أفلاطون في جمهوريته ليتبارى عن طريقها مكرساً لها شطراً عظيماً ومضمناً محتواها في جمهوريته.
المحور الرابع والأخير في هذه المحاكمة المعرفية، هو جدلي بامتياز دلالته نسقية واعية تهدف إلى معرفة الفعل، فقد قال إن «الفضيلة علم مختص بذاته، غايتها معرفة الأشياء في حال اتخاذ أمر معين تحسن عقباه»، وعند استقرارنا حول مضمون العمل الجيد أو غير الجيد وعن طبيعة العقلية التي تقدِم على هاتين الفعلين لوجدنا أن معرفة الفعل الحسن خارجة من ذات واعية بينما الفعل غير الحسن ناتجة عن ذات غير واعية هذا ما دعا إليه سقراط في دفاعه الجدلي.
 ولو استقرأنا هذا المفهوم لاستطعنا أن نستدل على نظرة عامة تعنى بماهية هذين الفعلين، فاذا اتفقنا أن جميع التصرفات الخارجة من ذات الإنسان لها ضروراتها على الزام الفعل أن كان حسناً أم غير ذلك، فالخطيئة ليست عبثاً ووأد الحرية ليس ضرباً من الترّهات والقتل ليس تجربة عابرة أو محطة للهو، لذا يكون تأصيل غرض الفضيلة أو الرذيلة في التكوين السيكولوجي للإنسان وقد تكون التنشئة عاملاً له فاعليته أزاء تنمية السلوك وتقويمه وهنا إشادة لمن يعرف الصواب أو الخطأ وفقاً لمنظومته الفكرية غير أن مسببات الفعل المشين أيضا تندرج في خانة المعرفة بالشيء، فالسرقة والقتل والحروب والقرارات التي تحط من قدر المجتمع كلها نتاج مخطط له ومدخر في الذهن ليوكل له الأمر في التنفيذ.