رثاء سومري

الصفحة الاخيرة 2023/11/05
...

محمد غازي الأخرس

رحم الله أجدادنا السومريين حين قالوا “الحياة تقطع كالقصبة, والذي يكون حيا في المساء قد يموت في الصباح”.
أنه سر الأسرار الذي دارت حوله الأساطير، واصطنعت من أجله الطقوس والشعائر، والفكرة المتوارثة، عدا فجائية الموت، أنه رحيل وانتقال من دار إلى دار.
يسمي العراقيون القدامى، دار الخلود بالعالم السفلي، المتمثل بأرض الأموات التي تحكمها الملكة آرشيكجال، شقيقة الآلهة إنانا، حيث اعتقدوا أنه بانقطاع النفس، تغادر الروح الجسد وتتحول إلى هيئة  بجناحين من ريش، ثم تحجز في دار الظلمة إلى أبد الآبدين.
يصف أنكيدو ذلك الانتقال لصاحبه جلجامش في الحلم الشهير الذي رآه كلكامش: “كنت واقفا وحدي، فظهر أمامي مخلوق مخيف، مكفهر الوجه…. عراني من لباسي وأمسك بي بمخالبه، وأخذ بخناقي حتى خمدت أنفاسي، لقد بدل هيأتي، فصارت يداي مثل جناحي طائر مكسوتين بالريش”.
إنه يصف عزرائيل الرافديني، ثم يواصل “أمسك بي وقادني إلى دار الظلمة، إلى مسكن أركالا، إلى البيت الذي لا يرجع منه من دخله، إلى الطريق الذي لا رجعة لسالكه، إلى البيت الذي حرم ساكنوه من النور، حيث التراب طعامهم والطين قوتهم، وهم مكسوون كالطير بأجنحة من الريش، ويعيشون في ظلام لا يروون نوراً”.
ثمة تعتاش الأرواح على إحسان أهل الدنيا، لذلك تختلف حالة الموتى بحسب مكانتهم حين كانوا أحياءً، وبحسب الشعائر الجنائزيَّة التي يقيمها أهلهم لهم (الثوابات).
في حلم أنكيدو، يسأله جلجامش عمن كان له ابن وابنان وثلاثة وأربعة، فيجيب بأنه رأى من لم يخلف إلا ولداً واحداً، ينطرح عند قاعدة الجدار باكياً، ومن خلف وراءه ولدين يستقر عند جدار من الآجر يأكل خبزاً، ومن ترك ثلاثة أبناء، رآه يشرب الماء من قراب ماء العمق، والذي له أربعة رآه مبتهج القلب. الاعتقاد نفسه ورثه العراقيون، وعبرت عنه الناعيات بالقول مثلاً: رحم الله والديها الجابت الخمسة.. يحيون الكلب لو كعدوا بجلسة.. رحم الله والديها الجابت اربعة.. يحييون القلب لو گعدوا بربعة.. ثم تنتهي بصاحبة الواحد فتقول: نعلت الله عليها الجابت وحيد.. ترف جلاه من تلفي الهواديد. صحيح أن التخريجة اختلفت باختلاف القيم، لكن الفكرة ذاتها، وهي مديح كثرة الأولاد بوصفه حلا لقهر الموت.
لماذا هذه المقالة الكابوسية؟ ببساطة، لأن أبا علاوي “شال”، شيلته الأخيرة. صاحبي الطيب، المكرود، الذي كان يزورني بين يوم وآخر، خطفه قابض الأرواح. كان يطرق بابي قبل أن يدلف وهو يصيح بلهجة أهل ديالى الجميلة : هاي وينك أبو الطيب؟ ثم نجلس لنشرب الشاي، ونتجاذب أطراف السوالف، من عمان لشمان. رجل من أهل الله، يحبني بطريقة غريبة، ويبشر الآخرين بأنني رجل مبروك و”صاحب بخت».
انتقل أبو علاوي من بيت الدنيا إلى أرض اللا عودة بسبب عجز قلبه عن مجاراة جسده. آخر مرة رأيته كانت قبل يومين من رحيله، لم أكن أعلم أنه سيموت بهذه السرعة، ورحم الله أجدادنا السومريين، لكأنهم وصفوا رحيله هو بالذات: “الحياة تقطع كالقصبة, والذي يكون حيًّا في المساء قد يموت في الصباح”.