ياسين طه حافظ
حين نتحدث عن ملتقى أدبي، أو ثقافي عام، إنما نحتاز فسحة من الزمن الصاخب حولنا، وفسحة من العالم الضاج المزدحم بقضاياه وغالبها مزعج متعب، هذه الفسحة، الواحة، الحديقة، الصالون المهذب، تعيد لك إنسانيّة ناعمة مستريحة وتذكرك بأن ثمة مكاناً في الحياة نظيف يمكن أن نستريح إليه. المربد واحدة من تلك المناسبات، من الفرص، لتنجو من الأجواء الخشنة المتشابكة، أو لتبتعد عما كنت فيه.يمكن أن تجد مثل هذا في معرض رسم، أو في قاعة أوركسترا، حيث الصداقة والألفة قبل أن تبدأ الموسيقى، أو في الاستراحة أحياناً، أو عقب الانتهاء، إذ تتريث قبل أن تودع وتغادر.
لكن، لماذا الحديث عن المربد، ولماذا مذاقه البصري؟
ليست مجاملة وليست هفوة عاطفيّة، أو هوى شخصي. ثمة حقائق تميز وتمنح ما يوجب الإقرار به. ثمة نقاط، مثل نقاط الضوء، ومثل مظلات مهذبة تقيك، ومثل إشارات محبة تستريح لها وتأمن. في البصرة شخوص روايات أو شخوص من أولئك الذين تحتفي بحضورهم القصائد، متعَبون أو عشّاق، أو متلهفون إلى معنى، أو ناس طيبون يريدون التعبير عن أريحيتهم ونظافتهم الروحيّة. كل واحد يصلح لأن نكتب عنه، وستكون الكتابة ممتعة جيدة أن صدقتَ واحسنتَ التعبير. المربد مناسبة والبصرة مكان.
لكن المربد ليس بشعره أولاً والبصرة ليست مكاناً أولاً. المربد محطة زمنيّة نظيفة ومريحة لنلتقي والبصرة بشخوصها، بمزايا ناس معروفين ومجهولين فيها. المعروف منهم تقصده بالحديث وبالمودة، وناس مجهولون يفاجئونك بما لم يعد «الناس دائماً يملكونه ويسخون به». هذه مشاعر يحسّها الكثيرون ممن يأتونها قاصدين أو عابرين ويعودون بمذاق فيه عافية وفيه ما يسرّ أو يرضى أو تعود منه راضياً ممتناً. لا أريد أن أعكر أو أفسد عواطفي الآن بالشعر وقضاياه وإشكالاته وأصيله والملفّق منه، أو السلسل النقي وما صرنا لا ندري كيف نصنعه أو ماذا نقول عنه، حتى لنفرح بمقطوعة الشعر الجيد مثلما نفرح بسجادة مزخرفة بالذهب. هذا لا يعدمه ذو حظ إذا أصغى جيداً وصبر على ما لا يرضيه.
المناسبات هي هكذا. وتأسست على إشادة بشخص ثم إشادة بدولة وهجاء لشخص ثم هجاء لحكم أو سلطة، وقضايا المجتمع تريد حصتها وتعتب أن أهملت، وثمة من يدعو لذلك. دعها خطابات للسِوى وأنت لك نصف الساعة، أو الساعة الخاصة بالشعر. ليتها تكون بُعدا فاصلا يُنسي الناس الحماسةَ وإثارات الإرضاء أو السخط. لك من المربد جماله المربدي الذي تختاره أو تهواه ثقافتك الجديدة.
بعد أن انعطفت إلى طريق ثانٍ، أعود إلى حيث كفت مع ما يسرّ وما يرضي وما يفاجئُك بالمحبة، أعود إلى المذاق البصري الذي كان عنوان كلامي. لأقول: من ناس البصرة بعض ظلوا يمتلكون ما افتقدته ملايين ناس العصر. واحدهم نزّاع لما يرضي، لما يجلب الشكر له ومحب يمنح الراحة لمن يرى أو يلتقي أو يخاطب. خيط ذهبي في نسيج الأخلاق العامة، لنسيج المدينة. لا ننكر وجود خطأ أو سوء أو رثاثة في مكان، لكننا نتحدث عما ظل من جمال الإنسان وهو يحاور وهو يعمل مع، وحتى وهو يساوم لا يعدم البسمة والرضا من بعد. أنا أديباً لي مجتمعي، لي محمد خضير برزانته وثقل مضمونه الأدبي والإنساني، لي كاظم الحجّاج، لم أَرَ أكثر سماحاً ولطفاً منه، وهو بهجائه السياسي الذكي يتقرّب باسماً للجميع. لي جابر الخليفة الذي يبدو لي يعيش في بقعة مترفة من البصرة خاصة به، العافية واضحة عليه والفرح. لي كاظم اللايذ، اللايذ من الدنيا خيرها وشرها، لي كريم شخيور الذي دائماً يهز كفّه لا يدري كيف إصلاح الدنيا بعدما خربت، وباسم القطراني الذي نادراً ما تراه مبتسماً أو غير مبتسم، فهو يختبئ في الجريدة لا يرى الناس ولا يراه أحد ولوجه الله والثقافة. نوع من التضحية التي لا تؤجر.. وأذكر أبا عراق، تصوروا أي خيال هذا الذي يرى للعراق أباً، ملتمّ في مكتبته في انعطافة السوق، ينبش التراث ويُسلّم من بعيد على الحداثة.. ريّان عالم البصرة وممتع!، ولي أخيراً وليس آخراً أديبات البصرة خلُق حلوٌ لهن، عذبات الحديث هن، جميلات وملتبسات النوايا.
إن كانت هذه عواطفك فلماذا فارقت هذي المحبّات كلها، ولماذا لا تسارع لمن ولما تحب؟، هي متاعب العمر يا أخوتي وصعوبة نقل الخطى، وفي الأزمات، الشعر لا يدري ما يفعل. الشيخوخة يا سادتي، مثل قطار الحمل ينقل بضائع سيئة لا تعنيك.
وحين يكبر الفرد منا، حين يشيخ، يكبر أو يشيخ كل شيء في بيته ويريد علاجاً، «الجرباية» والكنتور والثلاجة والزوجة وأنت. كلها تريد إصلاحاً أو تبديلاً.. لكن حلاً يأتي غير متوقع، هو أن ترحل وتترك كل شيء، لمن وراءك بحار فيه.
فلم يكن انقطاعاً، لكنه ضائقة وقت وزمن ماعدت أملك منه الكثير، ومشاغل آخر العمر مربكة ثم إنجاز مالم يُنجز. حسدتُ «قراش» الذي لا يعرف ما يصيد إذ تكاثرت عليه الظباء، أنا تكاثرت عليَّ المتاعب حتى لا أدري بأيِّها انشغل قبل غيره، لكن تأتي ساعة الكتابة، فابدأ مثل شعلة راكضاً، تاركاً كلَّ شيء ورائي. يبدو لي أن طاقة الكتابة هي الطاقة الوحيدة التي لا تنفد!
للمربد المحبة
والمحبة، كل المحبة، لمذاقه البصري.