حاتم حسين
أنقذتهُ. خفتُ عليه من أن تفترسهُ القطط وتأكله! فقد وقع من فوق شجرةِ الزيتون التي تظُلّل بيتنا. أدخلتهُ البيت.. لأنّ أرواح الطيور تشبه أرواح وأنفسَ البشر. فهي لا تطيق درجات الحرارةَ العالية، لِذا حملتُه إلى داخل البيت. وأسعفتُه ورشّشتَهُ بالماء البارد. إِسعافات أولية مهمة. رُبّما ستنقذ الطائر في لحظاته الأولى من الإصابة والموت المحقّق، فقد وضعته قُبالة المبردة لكي يصل إليه الهواء العليل، فينهض، ويطير، تذكّرتُ أُختي عندما كنّا صغاراً نُردّدُ (كوكوختي. وين أُختي) وسرعان ما جلبتُ له كأسا من ماء الحنفية، وقدّمته بين منقاره، وغطستُ رأسه، لكنّه رفض أن يشرب، نهضت واستبدلتُ الكأس بماء بارد من الثلاجة، وقدّمته إليه، فرأيتُه يشربُ الماء.. سبحانَ اللهِ حتّى الحَمامة تنفتح شهيّتها للماء البارد، فالمسألة بدت لي اعقد مما أتصوّر، قدّمت له بعض الخضار وفتات الخبز، فترة طويلة.. قدمت له الغداء، رفضَ أن يأكل شيئاً، بقيت أراقبه عن كثبٍ، وأُبادلهُ النظرات بعد أن صنعت له من كارتون الماء مكانا أشبه ما يكون بالقفص، وأنا أدعو الله أن يأكل من الطعام، فلم يأكلْ.. بدا لي الحَمام مريضاً مغمّضَ العينين. كأنّما يعشق النوم، بل نام ساعاتٍ طوالا. رغم ذلك فلم ينشط الّا قليلاً، وقد عادت له بعضُ قوته، وأنا في سرّي أدعُو اللّٰه أن أتخلّص من أمانته التي استودعها عندي، وأن يطير. ذهبت للسوق لأسأل العطار عن الحبّة التي يتناولها الحَمام، ويأكلها، فأشار إليَّ أن اشتري (الدخن) الذي يحبّه، ويأكله. قدّمتُه إليه. وأنا على أمل أن يأكُل!. غطّست منقاره في الحبِّ، فأحجم أيضا، نفور واضح عن الأكلِ والشّربِ بسبب مرضه. حقيقة أني قلقت عليه كثيرا، جاء أخي ثمّ تبعته أُختي فأخذا يداعبانه جذلين يحملانه، لكنّه أيضا لم تنشرح نفسه للحركة، أو الطيران مثل بقيّة الطيور التي ما أن تلمسها حتّى تخفقَ بجناحيها اللذين يصعبُ السيطرة عليهما، سحابة من الكدر غشيتني، وأنا أجلسُ على مائدةِ الطعام، أتناول غذائي بشهيّة. وبالمقابل أُبادله النظرات، وهو مُضربٌ عن الطعام، الحقيقة لم يكن اضرابا، بل هو المرض الذي يعانيه. حاولت بكلِّ ودِِ ولطف أن أرغّبه لكي يأكل. لكنّه امتنع! توصلت إلى قناعة، وهي بأنّه مصابٌ (بضربة شمسٍ) فأنا أعرف أعراض هذا الوباء الذي يصرع الطيور في موجة الحرّ الشديد ويصيب الجهاز العصبي. فكرت أن أذهب به إلى طبيبٍ بيطري. وفعلاً أبرقُت لسائق التكسي على عنوان طبيب بيطري، وحين وصولنا قام بفحصه وزقه ببعض المضادات الحيوية زقَاََ. وقال لي: انه مريضٌ بحمى (التيفوئيد)، فلا أظن أنه سينجو منه! حزنتُ أشدّ الحزن، وهو يقول لي بكلِّ قسوةٍ، انتظر موته ورحيله فلن يعيش سوى يومين قادمين. عدتُ به مسرعا، ورجوت سائق التكسي أن يفتح التبريد على الآخر. وهو يرمق حَمامي بنظرات العزاء، كان جو السيارة باردا حين دلفتُ إلى البيت، قالت أختي أبشر؟!، هل أعطوه علاجا؟
هززتُ لها برأسي، انه مريضٌ جداً، بقيت أراقبهُ، وأخاطبه (بكوكوختي..وين ا……أُختي) لكنه هوّم في إغفاءته إغفاءةِ الموتِ، كان الوقت فجرا. وأنا أراه يُنازع أنفاسه الأخيرة، إحساس مشدود ومؤكد يوحي لي برحيله. لا أدري كيف توطّدت هذه العلاقة السريعة بيني وبينه، حتّى أني فكرتُ ألا أكُل أيّ نوعٍ من أنواع الطيور بعد هذا الطائر كالدجاج، تشكّلت لدي مشاعر جديدة، أن أستغني عن أكله، والتلذذ بشوائه ما حييت، علاقة حتّمت عليّ أن أُغيّر نظرتي لكلِّ الكائنات، حاولت أن أُسقيه ولو قطرة ماءٍ. فأنا مدين له بالضيافة. لكنّ الوقتَ قد أزفَ، وأنا أراه يُناهض في تسليم روحه لبارئها، شعرتُ بهيبة الموت. أتابع احتضار الطائر الذي بدا لي واضحا.. فلقد رأيت، وشاهدت الكثير من الأشخاص، وهم على فِراش المرض، وفي لحظاتهم الأخيرة. تطلّعت من النافذة بالدعاء، يا ربِّ شاف وعافِ هذا الحمام الضيف. وانتحبتُ. وتذكّرتُ رحيل أُمّي، وأنا طفلٌ بسنينه السبع. اختلطت دموعي المنسكبة على رحيل أمّي، وطائري الذي بدا يتقلّب أمامي كأنّما يؤكد لي رحيله تقلّص جسمه، ورفع رأسه نحو السماء في مشهد من يريد أن ينهض. لكنّه لم يكن نهوضا، بل كان انتزاعا للروح. حركة أشبه بتلك القصص التي يسحب بها ملك الموت الروح بكل قوة من الجسد. وهو يتشنّج ويسقط بجسمه الخفيف تاركا هيبةَ الموتِ في قلبي، مات الحَمام أمام عيني. ومع آذانِ الفجر، تمهّلتُ في حمله، والذهاب لدفنه بعد أن أُفرغ من إداء صلاتي. بل شدّني الحنين في نفسي كي اصلي عليه. خرجت به إلى صحن الدار وأنا حزين. ممتعض. كانت هناك قطّةٌ قد تربّعت متحفّزة، وهي تشاهد بيدي الحَمام. مشيت في الشارع. كان هدوء الفجر يشاركني صمته وحزني وأنا أحمله حائرا. والقطة تسير خلفي (ميمومئة) تنتظر، كنت حائرا بين أن أهبهُ للقطة، أو أن أذهب
به إلى الدفن.