الواقعيَّة السحريَّة العربيَّة

ثقافة 2023/11/06
...

 فيء ناصر

على هامش معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الثانية والأربعين، والذي أفتتح في الأول من أكتوبر بمشاركة 2033 دار نشر من 108 دول عربيّة وأجنبيّة، تعقد الكثير من الندوات الحوارية والفعاليات الأدبيّة والاجتماعيّة والموسيقيّة والمسرحيّة والترفهيّة للأطفال وللكبار، وتعد هذه الأنشطة أحد مرتكزات المعرض التي تجذب الزوار والقرّاء من جميع المستويات والأعمار.من أهم الفعاليات الثقافيّة في هذا العام؛ ندوة تحت عنوان (الواقعيّة السحرية العربيّة)، وبمشاركة كل من الروائي المصري طارق إمام والكاتبة التونسية الدكتورة أميرة غنيم والكاتبة العمانية الدكتورة عائشة الدرمكي، استعرضت الدكتورة عائشة، بداية نشوء تيار الواقعية السحرية.

 وأشارتْ أنّها بدأت في ألمانيا عشرينيات القرن العشرين كتيار للفن التشكيلي، والناقد الألماني فرانز روه هو من اجترح هذا المصطلح. ثم انتقل المصطلح الى الأدب وأبرز ممثليه هم بورخيس وماركيز، وقالت: “منذ أن نشر ماركيز روايته الشهيرة مئة عام من العزلة، بدأ الكُتّاب بتبنّي هذا الأسلوب في كتابتهم، وكتب الناقد الفرنسي تودوروف عن الواقعية السحرية التي فرضتها رواية مئة عام من العزلة مقال نُشر عام 1978 تحت عنوان (ماكوندو في باريس)، وقال إنّ وجود عناصر “فوق طبيعيّة” يمثل أحد المظاهر البارزة في رواية “مئة عام من العزلة”، ولكن هذا العنصر فوق الطبيعي لا يتم تناوله هنا على نحو ما يحدث في الأدب العجائبي، عالم الحكايات التي تسكن فيها الجنيَّات والحوريات والعفاريت، وذلك لأنّ كتاب ماركيز يمثل عالمنا المعاصر، وليس أي عالم آخر، إذن الواقعيّة السحريّة هي إحدى التقنيات التي تسبر أغوار الواقع عن طريق التخيّل السحري وهدفها تفكيك الواقع وإعادة قراءته، وبعد ذلك بدأ الكثير من الكتاب بتبني هذا التيار ومن ضمنهم الكتاب العرب الذين كتبوا الواقعية السحرية وهي تيار ينتمي أصلاً لمذهب الواقعية سواء كانت واقعية اشتراكية او الواقعية في كتابات طه حسين، وانتشر هذا التيار بشكل ملحوظ مع أعمال نجيب محفوظ”.

وجاء في إجابة الروائي طارق إمام عن مدى رسوخ الواقعية السحرية في تربة السرد العربية: “إنّ الواقعية السحرية بشكلها المحكم غير موجودة، واقدر أن أقول إنّ الواقعية السحرية انتقلت من ألف ليلة وليلة الى الغرب، واريد هنا التفرقة بين شيئين، بين تأسيس المصطلح وهو مصطلح فني نشأ في أوربا وانتقل الى امريكا اللاتينية وصار ميزة لأدبها، وهذا يحيلنا الى أن فكرة الأسبقيات غير موجودة أصلا، فمثلا، ماركيز وهو أبرز ممثلي هذا التيار قال انه لو لم يقرأ ألف ليلة وليلة لما كتب مئة عام من العزلة، كما أن الكثير من نصوص بورخس قائمة أساساً على استلهام ألف ليلة وليلة، ليس فقط على المستوى التخيّلي، لكن ايضا على مستوى البنى الأساسية، مثل الحكاية الاطارية والقصص المتولدة منها، وهذه تقنية مأخوذة من ألف ليلة وليلة، فلو نظرنا الى الظاهرة سنجد أن الذهنية العربية بطبيعتها ترى الواقع ملتبساً بالخيال عموماً، في قصص الأولياء مثلا، ونحن نتعامل مع هذا الجزء في موروثنا كواقع باعتبار أن هذه المعجزات والكرامات قد حدثت فعلا، فالواقعيّة السحريّة لم تفدْ إلينا بقدر ما هي مكون أساسي في الثقافة العربية والشرقية عموما، النقطة الثانية؛ ان هناك تيارات في الأدب لها ميزات امبريالية، بمعنى أن لديها قابلية النمو في كل الثقافات، مثلا طبل الصفيح للألماني غونتر غراس تصنف كواقعية سحرية، وموركامي الياباني يُصنف ككاتب للواقعية السحرية وسلمان رشدي وغيرهم الكثير، لأن فكرة مزج الواقع بالخيال ليس فكرة محلية ولا تخص ثقافة من دون أخرى وهي أصلا موجودة في نظرة الإنسان للعالم، ولذلك ينجح هذا التيار اعتمادا على موهبة الكاتب أولا، لان كل مجتمع له اساطيره المؤسسة. فالواقعية السحرية أصلا تُوظف الموروث المتأصل في الذاكرة او الوجدان الجمعي لمجموعة من البشر، بمعنى آخر انها تلعب على الخيال المشترك وتمزجه بالواقع وتقدم بذلك نسخة جديدة لقراءة الواقع، النقطة الاخرى المهمة أن ما يميز الواقعية السحرية العربية أحيانا أنّها تُتيح للكاتب التعبير عن الواقع بطريقة مخاتلة، اي أن النص يتحايل على السلطة القمعيَّة التي تتحكم بالواقع العربي، وهنا يلتف الخيال على السلطة الغاشمة ليُمكن الكاتب من قول ما يريد من دون أن يكون عرضة للعقاب، فحتى ألف ليلة وليلة نفسها لطالما تعرضت للعقاب من قبل فقهاء الدين واللغة. فانا أرى ان الواقعية السحرية لها دور ايديولوجي او سياسي لتمرير بعض الأفكار التي لا يُسمح لها بالمرور اذا ما اعتمدنا قالبا واقعيا صرفا.»

أما الدكتورة أميرة غنيم فكان رأيها في تحقق مفهوم الواقعية السحرية في الأدب العربي حيث قالت: “إن المدرسة الواقعية بذاتها في الأدب، وهي بالطبع اقدم من الواقعية السحرية، لا تنقل او تعكس الواقع وانما تُخيله وتُسرده واقعيا. ما الذي اضافته الواقعية السحرية اذن؟، وما الذي يميز هذا التيار عن باقي التيارات التي يغلب عليها الخيال في السرد مثل تيار الأدب العجائبي او الفتازيا او الحكاية الخرافية او الأدب السوريالي، وهي بمجملها تيارات قريبة من بعضها البعض؟، الفرق بسيط جدا،(وهل تمثله الكاتب العربي واشتغل به؟ تلك مسألة أخرى)، وهو أن الذي يكتب واقعية سحرية يريد أن يموه عمدا الحدود الصارمة والفاصلة بين ما هو عقلاني وماهو غير عقلاني، ولا أقول بين الواقع والخيال، لأن ثمة منطقاً في الأشياء نتفق عليه يكتبه الكاتب الواقعي، مثلاً؛ شخص ما يدخل ويخرج ويسير على قدمين، والعين مكانها المحجر ولا تسقط على الارض ولا تُرسم فوق الجدران ولا تُحمل في اليد كما فعل طارق إمام في (ماكيت القاهرة)، فالتمويه بين العقلاني وغير العقلاني هي سمة الواقعية السحرية بحيث يقبل القارئ من الكاتب أن يقول له انه وجد في الأرض عينا والتقطتها وسار بها وهي في كفه ولا يشعر القارئ أن هذا الأمر ناشز عن نسيج السرد الواقعي، إذن المسألة؛ مسألة دوزنة. ما الشيء الذي يمكن اضافته للنص ويكون فوق الطبيعي ومع ذلك يوضع في نسيج السرد ويُقدم على أساس أنه مألوف وعادي ومقبول على خلاف ما يحدث بالفنتازيا. ففي الفنتازيا هناك معادلة مفادها: أنا الكاتب وانت القارئ متفقان على ان هذا العالم “الفنتازي” له قوانينه الخاصة به بخلاف قوانين الواقعية السحرية التي تقدم وتمرر للقارئ شحنة من الأشياء الخارقة والغيبية والعجائبية داخل قوانين الواقع الفعلي. والسؤال الان هل استطاع الكاتب العربي أن يجسّد هذا المفهوم فيما يكتب؟ الجواب حسب وجهة نظري هو: ان الكاتب العربي ليس مطالبا بأن يجسّده، هذه نظريات في الكتب أو تيارات وأنماط، والأهم هو أن لا يسجن الكاتب نفسه في صندوق، والمعيار الوحيد هو جودة النص الذي يكتبه ومدى تعلق القارئ بالنص. والكاتب الذي يكتب الواقعية السحرية مغامر ونقدر أن نقول إنّ جمهور الواقعية السحرية يتسع الان ولكن لها ايضا وجه آخر او قفى، وقفاها أن يصمها القارئ بالهراء، وينبغي أن يقبل القارئ من الكاتب هذا (الهراء) لأنه يمتلك موهبة كافية تجعل القارئ يتعلق بالنص ولا يتركه إلّا بعد الانتهاء منه وبهذا يتفاوت الكُتاب. فالواقعية السحرية موجودة باشكال مختلفة جدا، من الكُتاب من يكتب الأدب العجائبي ويصف نفسه انه يكتب الواقعية السحرية ومنهم من يوظف الاساطير والخرافات ويقول انه يكتب الواقعية السحرية وأيا كانت التسمية المهم ان يكتب الكاتب نصا يشد بتلابيب القارئ. ينطلق النقد من النص ويصفه ولا ينبغي للنص أن يسجن نفسه في المصطلح النقدي، يمكن بعد فترة معينة من التراكم، خمسين سنة مثلا، يأتي ناقد عربي ويطلق على ما يكتبه الكُتاب العرب مصطلحا آخر. ويقول ان ما سُمي بالواقعية السحرية في امريكا الاتينية لا يُطابق ما يكتبه اليوم الكتاب العرب، وأضافت الكاتبة الدكتورة أميرة “ان من يصنع نصا واقعيا سحريا ليس الكاتب وحده بل القارئ بتواطؤه مع الكاتب على تصديق ما يريد له الكاتب أن يصدقه هو من يخلق نصا واقعيا سحريا ناجحا.»

ويرى الروائي طارق إمام أن رواية مئة عام من العزلة كانت العلامة الفارقة، لكن مع كل رواية تنتمي لهذا التيار نكتشف تعريفا جديدا، ويمكن أن نلحظ اضافة عناصر جديدة او حذف عناصر اخرى،”أعتقد ان هذا التيار هو تيار متحرك باستمرار، وهي ميزة الأدب. مثلا هناك انتقال من الاسطورة الجمعية الى الاسطورة الفردية بمعنى وجود شيء غرائبي يخص فردا واحدا، اذن هناك تنويعات للمصطلح وتجليات تضاف اليه. بالنسبة لي عندما اكتب لا افكر كثيرا في المشتركات الميثولوجية او الاسطورية التي يشترك فيها سكان القاهرة مثلا، فانا أخلق قانونا خاصا لكل رواية وأوسع الواقع قليلا ليوائم السرد، اذن الخيال نفسه تنتجه لحظة واقعية وهي ايضا لحظة ثقافية وسياسية، ومهما اختلفت تعريفات الواقعية السحرية لكن اهم شيء فيها هي نظرة الكاتب للعالم، انت تكتب ليس بسبب ان ذلك قد حصل فعلا، بل لأنها الطريقة المثلى لنقل فكرة ما في رواية ما، وقد لا تكون هذه الطريقة هي الأفضل في راوية اخرى للكاتب نفسه او لكاتب آخر، فمثلا، رواية “وقائع موت معلن” لا أقدر أن أصنفها أنها رواية من الواقعية السحرية.»