باسم سلمان
تقول إحدى السيدات في فيلم: {ألف وواحد} (2023): {كونوا من هارلم، لا كهارلم}. ما قصدته السيدة في خطابها لإينز (تيانا تايلور) السجينة، المطلق سراحها حديثا، التي خطفت ابنها من نظام الحضانة الاجتماعي، لتمنحه دفء العائلة التي فقدتها في طفولتها، ولتحقق معه معنى الأمومة، ليس بالإنجاب فقط، بل بالرعاية والتربية؛ بمعنى انها تريدها ان تتشبه برجالات حي هارلم في نضالهم ضد القوانين الجائرة والعنصرية، كما فعل الروائي جيمس بالدوين الذي نشأ فيه، ووجد فيه مالكوم إكس حاضنة شعبية في نضاله من أجل إقرار الحقوق المدنية للسود، لا أن تتمثله كمكان للفقر والجريمة.
يبدأ الفيلم الذي اخرجه إي. في. روكويل بلقطات واسعة لمدينة نيويورك، ثمّ تتخصّص بهارلم، لتظهر إينز تمشي بثبات محتفية بجمالها وشبابها متّجهة إلى ابنها، الذي تخلّت عنه مرّات، ومن ثمّ أخذه النظام الاجتماعي منها بعد دخولها السجن. يحتمي الطفل تيري(أرون كينجزلي) منها بأصدقائه. فيما بعد تعلم من رفاقه، بأنّه في المشفى إثر هروبه من العائلة التي تتبنّاه، فتذهب إليه، لتكسب ثقته من جديد، وتهرب به لتنشئ عائلة. لم تكن إينز تملك نقودًا، ولا عملًا، أو مسكننًا، لكنّها تكافح من أجل ذلك، مضحيّة بأحلامها الخاصة، فتشتغل كعاملة نظافة، لكسب النقود، لتستأجر بيتًا، ولتشتري لتيري أوراقًا رسمية مزوّرة، باسم جديد له.
يتقدّم الفيلم بهدوء من التسعينات إلى العقد الأول من الألفية الثالثة، كاشفًا عن نمو العلاقة بين إينز وتيري وولادة الأمومة من جديد والبنوة أيضًا. يدخل حبيب إينز، لاكي (ويليام كاتليت) السجين السابق حياة العائلة الصغيرة، ليصبح أبًا لتيري على الرغم من اعتراضه على حيثية اختطافه من نظام الرعاية، لكنّه يلعب دوره كأب بشكل جيد.
تمحو إينز بعاطفتها المتدفّقة الذكريات السيئة لتيري عنها وكيف نبذته في طفولته. ففي ذلك الوقت، لم تكن إلّا مراهقة وجدت نفسها حاملًا. وفي مشهد لها، في السجن، تصفّف شعر إحدى السجينات الكبيرات في العمر، يشي بأنّ ما كان ينقص إينز حتى لا تنحرف، هو وجود عائلة حقيقية حولها تسدي لها النصائح وتستوعب جموحها، فوجدت ذلك في السجن من خلال تلك السجينات، اللواتي وهبنها حكمة التجارب التي مررن بها، لذلك يكون تصميمها بعد خروجها من السجن، أن تعمد إلى استرجاع ابنها لينشأ ضمن عائلة.
ليس الفيلم عرضًا للبطولات، بل تصويرًا ليوميات هامشية لا تُذكر؛ لكنّها تصنع معنى الإنسانية، ففي إحدى المشاهد يمشي لاكي مع تيري ويطلب منه أن يتخذ الجانب الداخلي للشارع قرب الحائط، لأنّه أكثر أمانًا من الجانب الخارجي منه. وهذا ما يكرّره تيري مع فتاة أعجب بها. وعندما تسأله عن السبب، يجيبها، بأنّه أكثر أمانًا.
لم تكن إينز متهاونة أبدًا في تأمين حياة جيدة لتيري، وهذا ما كان يسبب ضغطًا على لاكي، الذي كان يغيب عن البيت لفترات طويلة، يلومها تيري بسببها، فهو بحاجة إلى الأب.
وفي جنازة لاكي بعد موته بسبب السرطان تظهر امرأة أخرى له، فيتساءل تيري عن تلك الأنثى التي تحمل طفلة صغيرة، فتخبره بأنّها امرأة أبيه الأخرى، وعليه أن يعد لها طبقًا من الطعام إكرامًا لقيامها بواجب العزاء.
لم تتخل إينز عن لاكي في مرضه وعندما يسألها، لماذا؟ تجيب، بأنّها تحبه، لكن ما قصدته، بأنّ معنى الإنسانية يكمن في أن نقف معًا في المحن.
تحتدم الأحداث وخاصة بعد خداع مالك البيت الأبيض اللون لإينز، بأنّه ينوي إصلاحه بعد القوانين الجديدة التي أصدرها عمدة المدينة، لكن ما فعله كان، بأن جعله غير صالح للعيش. يدفع هذا الأمر تيري للبحث عن عمل، ممّا يؤدّي لكشف التزوير الذي قامت به إينز بداية، والذي مكّنها من إدخاله إلى المدرسة. أصبحت إينز مطلوبة بجريمة جديدة بالإضافة لفقدانهم البيت، لكن تيري لم يبق له إلّا أسابيع ويصبح راشدًا بموجب القانون.
ليس عنوان الفيلم إلّا رقم الشقة الصغيرة، التي أنشأت بها إينز عائلتها. والآن إينز مطلوبة لارتكابها جريمة الاختطاف، التي من خلاها أنشأت شابًا قويًا وخلوقًا سيقف قريبًا بجانب أمّه في دفاعها المحقّ عن ضرورة ارتكاب تلك الجريمة، التي كان من نتائجها أن أصبح لتيري عائلة.
استطاعت المخرجة روكويل ذات الأصول الملوّنة أن ترينا العنف المضمر في القوانين الأمريكية تجاه السود، فلقد أوقف تيري عدّة مرات من قبل الشرطة في الحي، ليس لشيء إلّا لأنّه أسود. وأظهرت كيفية سلب الحي من سكانه السود عبر التحديثات العمرانية الجديدة كي تتناسب مع صورة نيويورك في الألفية الجديدة، والأهم من ذلك نضال المرأة/ الأم السوداء من أجل أسرتها، وكل ذلك كان مؤطّرا بالمكان النيويوركي.