الثقافة العراقيَّة.. من القطيعة إلى العزلة

ثقافة 2023/11/07
...

 موج يوسف

الكاتب أو الأديب أو الفنان هم من يمسكون أو يحررون أجنحة النص للطيران حول العالم كلّه من دون تحديده بموسم أو هجرة معينة، وما أعنيه على وجه الدقة: أنَّ النصَّ الأدبي العراقي المعاصر في العقدين الأخيرين والمتمثل بـ (الشعر، القصة، الرواية، المسرح، السيناريو) بات محاصراً بالقضايا الداخليَّة والشأن المحليّ الاجتماعي السياسيّ في العراق، ولم يحاول الأديب أن يجعل من القضيّة المحليَّة عالميَّة، لأنَّ المحلية قادرة على تخطي الحدود لا سيما القضايا الإنسانية التي كسرتها الحروب والصراعات الداخلية، فالشر موجود في كل البلاد حتى وأن اختلف وجهه.
ولا يغيب عن بالنا ما صنعه الشاعر محمود درويش، والكاتب غسان كنفاني، والفنان ناجي العلي، والبرغوثيان (مريد وتميم)، هؤلاء بأدبهم نقلوا قضيتهم إلى العالم أجمع، وحولوها إلى شأن إنساني وهاجس يعيش في كلّ الضمائر الإنسانيَّة، وأقلقوا عدوهم بسلطة قلمهم.
وعند قراءتنا لنصوصهم ومقالاتهم واستحضار التاريخ والموروث الديني، نلحظ بأنهم يتقنون الرحلة من داخل الذات إلى خارجها من دون الغرق بالأنا ومن دون أن يفقدوها ويحولوها إلى ناطقة باسم الجماعة وكيفية حمايتها من قصديّة التمثيل بحسب رأي محمود درويش.
وفي سفر النصّ الأدبي من الذات إلى العالم، تتوحد التجربة الأدبّيَة وتحقق (عولمتها) في هذا السياق المتعدد اللغات والمناطق ودرجات التطور يتحرر الأدب من هيمنة المركز وتبعية الطرف، بإسهام كلّ محليّة في صوغ ما نسمّيه الأدب العالمي، والأحداث التي مرّت بالعراق صالحة لتحقق العالمية من خلال الأدب لكنَّ ما يمكن ملاحظته في العقود الثلاثة الأخيرة بأنّ الثقافة وخطابها انقسما إلى قسمين، أولهما: القطيعة.
وثانيهما: العزلة، فالأول تمثل بسنوات الحصار الذي لم يكن مفروضاً على الشعب فقط، بل فُرضَ على كلّ نوافذ الحياة العراقيَّة آنذاك ومنها الأدب الذي انقطع -أغلب فنونه- عن العالم العربي، ولم يعد مقروءاً أو مؤثراً في المتلقي الآخر إلا بعض الخطابات التي تروج لها السلطة وتسمح لها بالخروج إلى ذاك الفضاء، فوقعت الثقافة بأزمة انقطاع ومقاطعة، ولم تعدّ الحركات الشعريّة التجديدية في العراق ذات أهمية عربيّة كما كانت مع السياب ونازك والبياتي بالرغم من أن الشعر والقصيدة العراقيَّة في سنوات الحصار لم تبق راكدة ومؤدلجة، بل تخلت عن المنبرية والخطابية وصارت تتبنى الرؤية وليست الصورة وتحافظ على النفس الإنساني العام.  
وبمعنى آخر أن الأدب العراقي في سنوات الحصار انجبَ شعراً وجيلاً جديداً من الشعراء، قاموا بتغيير بوصلة القصيدة التي كانت سائدة عند الأجيال الشعريّة التي سبقتهم، وخاصة (قصيدة الشعر) سواء كانوا تياراً أم لم يكونوا، إذ يمكننا رصد معالم قصيدتهم التي خرجت من المحليًّة إلى العالميَّة بفعل اللغة والرؤية واستحضار صوت ألم الإنسان في النص الذي حلق في الأفق الإنساني الرحب، ومن بين هؤلاء الشعراء هم عارف الساعدي وفائز الشرع ونوفل أبو رغيف وعماد جبار وحسن عبد راضي ومحمد البغدادي ومضر الآلوسي وغيرهم، قاوموا بشّاعة الحياة بالشعر.
وهكذا يكون الشعر فعلا مقاومة، لكن دواوينهم الأولى التي صدرت بتلك المرحلة لم تحتل المكانة العربيَّة البارزة، ولم يسجل تيارهم (قصيدة الشعر) بأنّه حدثٌ مهم وينال الصدى الواسع في تلك المرحلة، ولم يبشر النقد  بوجود تحوّل هكذا كما فعلوا مع الحركات الشعريَّة السابقة التي انطلقت من العراق ـ وبالرغم من أن العديد من الدراسات الأكاديمية العراقيَّة تناولت مشروع قصيدة الشعر، لكني أرى أنّ قصائدَ الشعراء الآنف ذكرهم تحتاج إلى إعادة قراءة نقدية من زاوية مغايرة لا تهتم بالشكل الخارجي للقصيدة وأنما ترصد الرؤية وهي تحرك الدلالات اللغوية المعجمية وتتبع تحولات قصائدهم إلى  حاضرنا الحالي.
وترصد أيضاً تغير الصورة من الفنية التقليدية إلى المشهدية الدرامية؛ لوجود آليات السرد، وكيف هيمنت اللغة على الإيقاع الشعري .
ولأنَّ أدبنا وقع في جب القطيعة لم يُقرأ بشكل فاحص فالرواية كذلك جرى عليها كما جرى على الشعر، فصدرت بعض الروايات حملت ثيمة عمّا هو العالم؟
لا سيما رواية ليلة الملاك للروائي نزار عبدالستار فقد خلق شخصية السمارتو الأسطورية الذي صنع سفينته لإنقاذ البشرية من الغرق، فالموضوعة كانت ترصد الإنسان الذي يُواجه سيرورة تدهور القيم.  فهذه الرواية التي صدرت في نهاية التسعينيات أيضاً، ويمكن عدها انعطافة في الروايات العراقية؛ لأنّها جنحت حول العالمية لكنها دفعت ضريبة القطعية المفروضة على البلد.  وأما القسم الثاني فيتمثل بالعزلة التي وقعت فيها الثقافة العراقية وخطابها بالعقدين الأخيرين. فالبرغم من الانفتاح وحالة الحرية في الكتابة وتواصل الأديب والفنان مع العالم الخارجي وحضوره ومشاركته في الملتقيات العربية لكنّه وقع بأزمة العزلة النصية، فالمثقفون العراقيون لم ينجحوا في خلق خطاب خارجي وبقيت الثقافة داخلية اجترارية، مع وجود صعوبات في فهم الخطاب الثقافي العراقي كونه ينفتح على نفسه ولم يخرج من الذات وهذه الأخيرة تعيش بحالة انغلاق في النص الأدبي، الذي أصبح لا يعبر عن محيط إنساني، وإنما عن مشكلات تخص السياسية والتقاطعات الطائفية، والعودة إلى زمن النظام السابق وسرد الممارسات الدكتاتورية كوثيقة تاريخية بعيدة عن الأدبية، فصار الخطاب يرسخ الصراعات الداخلية ويغذي النعرة الفئوية، ويوجه نفسه للقارئ الموازي وليس للقارئ العربي لا سيما الخطاب السردي في القصص والروايات وحتى المسرح والسيناريو فالثيمة ذاتها.
كما أن الشعر لم يعد مضيئا كما كان فقد نشف الزيت من مفصاله وأصبح يعيش على التلاعب اللفظي وصارت القضايا الداخلية تجلس على رقبة النص وتستريح، ولولا بعض الاستثناءات الفارقة عند الشعراء لقلنا أن الشعرَ يموت في العراق.  ما يمكن قوله: إنَّ عزلة الثقافة العراقيَّة تكمن في طبيعة كتابة النص وتناوله وبعدم ارتطامه بالوجود.