أرتميس.. إلوهات بعيدة عن الزواج

ثقافة 2023/11/07
...

 ناجح المعموري

الأب زيوس مجامل حقاً، له الكثير من الأطفال في ظروف مختلفة فلا يستطيع أن يتذكرهم جميعاً في عقله، ومهما كان فعله لا يسمح لنفسه أن ينسى ولدي ليتو. كانا جميلين وهو يعجب بالجمال أكثر من أي شيء آخر فإلى ما نظر من الأولمب فإن وجهيهما يشرقان من بين جميع أطفاله في الأرض. لقد بدا له أنهما يشعان بنورهما، وكل واحد من هذين التوأمين يختلف عن الآخر - أبولو أحمر، أرتميس بنور فضي وهو يعرف أنهما من سلالة الهيَّة حقاً فيجب أن يدخلا الأولمب. أرسل وراءهما في عيد ميلادهما الثالث، جعل هيفا ستوس يضع لابولو قوساً ذهبيّاً وجعبة للسهام الذهبيّة لا يمكن أن تفرغ وعربة ذهبيَّة تجرها مها ذهبيَّة لكنه حجب هداياه عن أرتميس، فقد فضل أن تسأل هي بنفسها عن الأشياء التي تريدها. فأخذها بحضنه وقال: وما الهدايا التي ترغبين فيها أيتها العذراء؟.
قالت: أرغب أن أكون دائماً عذراء، وليس امرأة أرادت قوساً وسهماً أيضا -ولكن من فضة وليس من ذهب، وأريد لباساً قصيراً من جلد الغزال يساعدني على الركض، وأريد خمس عشرة حوريّة يغنين لي، وعشرين حوريّة غابات يصطدن معي. وأريد مجموعة من الكلاب، أرجوك أن تكون قوية وسريعة. أريد أن تكون الجبال أمكنة خاصة لي ومدينة واحدة، مدينة واحدة تكفي، فأنا لا أحب المدن ومدّت يدها ولعبت بلحيته وابتسمت له قائلة: بلى؟ أيمكن أن تتوافر لي كل هذه الأشياء أيمكن؟  
ردَّ زيوس: «بالنسبة لطفلة مثلك» لا شك أنّك تستطيعين غصب هيرا ولو للحظة. سوف يكون لك فوق ما تسألين، فسوف تكون لك موهبة العفة، وكذلك موهبة تغيير رأيك ساعة ترغبين. وهذا يبيح لك حرية أكثر. وأخيراً ستكون لك الهدية الكبرى، وهي أنّك ستختارين أشياءك بنفسك لتكون لها قيمة خاصة.
قبلته وهمست تشكراتها واختارت أجمل الحوريّات لبلاطها. زارت هيفستوس في دكان حدادته في قلب الجبل وقالت: «جئت من أجل قومي» أرجوك أريده من فضة.
قال: الفضة صعبة في العمل أكثر من الذهب. أنّها تحتاج إلى شيء بارد، يجب أن تصنع تحت الماء، فعليك الذهاب عميقاً تحت البحر، إلى جزيرة ليبارا، حيث السيكلوب يصنعون معلف خيل لبوسيدون الذي لا يفكر إلا بالخيول في هذه الأيام.
سبحت أرتميس وحورياتها تحت الماء، حيث كان السيكلوب يصنعون معلفاً عظيماً. خافت الحوريات من منظر هذه المخلوقات البهيمة العابسة أصحاب العين الواحدة. ونفرن من ضجة الطريق. لكن أرتميس قفزت على الكير، وقالت: جئتكم برسالة من هيفا ستوس، يقول لكم دعوا جانباً معلف الخيول هذا واصنعوا لي قوساً فضياً وجعبة من السهام الفضية فإذا ما فرغت امتلأت ثانية، فإن فعلتم هذا فسوف أعطيكم أول طريدة أطلق عليها.
وافق السيكلوب الذين أضناهم العمل في معلف الخيول على طلبها عندما انهوا القوس شكرتهم بكل لطف، ولكن عندما حاول قائدهم برونتس أن يجلسها على ركبتيه انتزعت قبضة كبيرة من شعر صدره فانزلها بسرعة وولى يسب ويلعن، رفعت قوسها عالياً صائحة من الفرح، راكضة عبر الحقل والوادي والهضبة، تتبعها حورياتها، يركضن وراءها بسيقانهن الوضاءة وشعرهن المتطاير، ضاحكات، مغنيات، ووصلت إلى اركاديا حيث كان يرعى كلابه. صاحت: يابان، يا ملك الغابات الصغير يا ابن خالتي الحميم أعطني بعضاً من كلابك: أرجوك انتقِ لي أفضلها.قال وهو ينظر إلى الحوريات: ماذا ستعطيني بالمقابل.
قالت: اختر ولكن أحذرك يا ابن خالتي فهؤلاء قد نذرن أنفسهن للعفة مثلي.
قال: إذن احتفظي بهن.. أي نوع من الكلاب ترغبين؟
صاحت: هذا وهذا وذاك وسوف اخذ هذا وهذا أعطاها أحسن كلاب من كلابه، ثلاثة منها سوداء بيضاء ضخمة، في مقدورها الإمساك باسوحي وسحبه إلى الصياد. البقية بيضاء لصيد الغزلان، أي واحد منها يمكن أن يمزق وعلاً.
كانت لدى أرتميس رغبة جامحة لتجريب هداياها: أرسلت كلبين أبيضين خلف غزالين، فاحضراهما لها من غير أي أذى في الحيوانين. ربطتهما إلى عربتها الفضية وانطلقت. رأت شجرة يضربها البرق، وكانت لا تزال تدخن. جعلت حورياتها يقطعن أغصان الصنوبر ويرمينها على الجمر، لأن الليل كان قد حط وتريد ضوءاً حتى تطلق سهامها، كانت متشوقة لا تستطيع أن تنتظر حتى الفجر.
أربع مرات أطلقت قوسها الفضي. السهم الأول فلع صنوبرة ثم شجرة زيتون ثم أطلقت على خنزير بري أخيراً أطلقت سهماً على مدينة من الرجال الظالمين فاخترقهم السهم ولم يتوقف حتى جعلهم جميعاً صرعى.
رآها الناس فوق الجبال تعدو وهي تستخدم قوسها الفضي تتبعها عذاراها ومشاعلهن فسموها ربّة القمر وبعضهم سماها عذراء القوس الفضي. آخرون سموها سيدة الوحشيات. بعضهم سماها الصيادة وآخرون سموها العذراء، وهكذا حصلت على آخر هداياها- الأسماء الكثيرة لا تدع إنسانا يقترب إليها، مرة لمحها شاب يُدعى اكيتوب تستحم في ينبوع، كانت جميلة بحيث أنّه لم يستطع أن يهرب، بل يختبئ هناك، يخالس النظر رأته على الفور غيرته إلى وعل، ثم صفرت لكلابها فمزقته أربا.
حاولت تطبيق القاعدة على حورياتها، لكن ذلك كان صعباً عليها. لقد أغوى زيوس نفسه حورية من أجمل حورياتها اسمها «كالسنو» وعندما علمت أرتميس بذلك حولتها إلى دبة وصفرت لكلابها. هاجمتها الكلاب وكادوا يمزقونها إرباً، لكن صادف أن زيوس كان يراقب ما يجري. وقد رفع «كالسنو» وجعلها بين النجوم. لا تزال هناك، تحمل شكلاً لا تشك به هيرا.
طلب الإله زيوس ولديه من زوجته ليتو حضورهما في عيد ميلادها الثالث. ويبدو أن التثليث مبكر من بلاد الاغريق كمعتقد متداول، ويعني هذا أن السنة الثالثة مرحلة أو عتبة مرور نحو مرحلة جديدة. صنع هيفا ستوس عدداً من الهدايا الذهبية تماهياً مع شكل ابولو الذهبي. القوس وجعبة السهام الذهبية وعربة ذهبية تجرها أمهار ذهبية ويعيدنا هذا إلى ملحمة جلجامش المعروفة في العالم القديم وحصراً بلدان الشرق وهي أقدم كثيراً من الملاحم الإغريقية والهندية والفارسية وكان لها تأثير واضح، ليس سهلاً إخفاء مجاورة الملاحم اللاحقة مع الملحمة الأكدية. وليس هذا فقط هو التناص/ التبادلي مع ملحمة جلجامش وإنما النصوص كثيرة، ودرسها عدد من الباحثين العرب والأجانب. حاولت الإلهة عشتار إغراء الملك جلجامش ووعدته بمركبة من اللازورد والذهب وعجلاتها من الذهب وقرونها من البرونز.
سأل زيوس ابنته أرتميس عن الهدايا التي تريد. ولم يفرض رأيه عليها، بل سألها ولم يقرر هو ما يقدمه إليها احتفالاً بعيد ميلادها وأطلق عليها صفة العذراء منذ الطفولة المبكرة. وأرتميس ذات عقل راجح وشخصية قوية وقادرة على أخطر الأفعال، وهذا ما كشفت عنه الأسطورة حيث قامت أرتميس بتوليد ليتو. وصارت وظيفتها الإشراف على النساء لحظة تقام ولادتهن.
ويضيءُ طلب أرتميس هذا إمكان بقاء الإلوهات المؤنثة بعيدة عن الزواج، بمعنى كانت أرتميس أصلا مبكراً للعذريّة باعتبارها جوهراً للكائن الأنثوي، وأيضا للذكر وأعتقد بأنّها ارتبطت بالثقافة في بلدان عديدة من الشرق وبلاد الإغريق متأخرة في ذلك. والإلوهات البتولية هي الأكثر وضوحاً ثقافياً ودينياً، لأن الإلهة تمارس طقسها الوظيفي عبر الجنسي وتعاود استعادة العذرية، عرفت أفروديت القبرصية ذلك، لأنّها ذات أصول عراقية واضحة.
أما أرتميس فهي الأكثر لطفاء ثقافياً وموقفها هذا يعني أنها رافضة الوظيفة الأمومية واحتفظت بصفتها عذراء ولم تكن امرأة مثل الإلوهات الباقية. ظلت أرتميس إلهة عذراء ووقعت بأخطاء من أجل المحافظة على ذلك.
حصل هذا في فترة عشقها لرجل، وأوهمها ابولو أن تسدد سهماً نحو رجل متحرك في البعيد، أطلقت عليه واردته قتيلاً، كان ذاك الرجل هو عشيقها خاف الإله زيوس من فقدانها العذريّة، لأنها وقعت بحب رجل خارج محيط الإلهة الإغريقية وحتى الطبقة النبيلة، فأوحى لابولو أن يطلب منها تسديد سهمها وقتله وظلت عذريتها مصونة. ما حصل بين الإلهة أرتميس وزيوس ميثاق عهد واتفاقات غير قابلة للخرق وعليها الالتزام بها.
من عناصر هذه الإلهة المكونة لشخصيتها الفن وربما بتأثير ابولو العاشق للموسيقى وأرادت هي أن يعطيها زيوس خمس عشرة فتاة يغنين لها فقط واختارت الأماكن المرتفعة/ الجبال فضاء لها، لأنّها لا تحب المدن، والسبب كما أعتقد هو الوظائف الخاصة بها، لأنّها مرتبطة بأماكن خارجية، الغابات، البراري البحيرات وحيواناتها أيضا المهم في هذه الموبقات الأسطوريّة الخاصة بأرتميس هو حرية القرار لحظة حصول متغيرات لديها وحصراً في مجال عفتها وعذريتها «موهبة تغيير رأيك فيها ساعة ترغبين وأخيراً ستكون لك الهدية الكبرى: وهي أنك ستختارين أشياءك بنفسك لتكون لها قيمة خاصة» حافظت على موقفها وظلت عذراء، لكنها حاولت تعويض نقص الوظيفة الأموميّة عبر تعدد المسؤوليات الخاصة بالخصوبة وتسهيل ولادات النسوة.