اليابان تحب السوشي.. لكن الأسماك تختفي

بانوراما 2023/11/07
...

  ستيفاني يانغ
  ترجمة: بهاء سلمان

في كل عام، مع اقتراب شهر تموز من نهايته، يقوم “نوريو تيرادا” وزملاؤه من مزارعي المحار بغمر مئات من أصداف الأسقلوب المعلقة على حلقات سلكيَّة في مياه بحيرة هامانا. ثم يجري حصاد اليرقات السوداء الصغيرة الملتصقة بالأصداف من البحيرة المالحة خلال 18 شهرا تقريبا كمحار كامل النمو. لكن على تلك الكائنات الصغيرة أولا أن تنجو من بيئة بحريّة معادية بشكل متزايد، والتي أدت في السنوات الأخيرة إلى تراجع الإنتاج وإثارة قلق الصيادين في جميع أنحاء البلاد.

“يعود تاريخ زراعة المحار إلى أكثر من 100 عام،” يقول تيرادا، 64 عاما، ويضيف: “لكن هذه هي المرة الأولى التي ألاحظ  فيها هذا العدد الكبير من الوفيات.” ولم يسفر الموسم المدمر بشكل خاص قبل ثلاث سنوات عن سوى عشر محصوله المعتاد.
ويكمن أحد التهديدات الحيوية بالمياه الدافئة، التي تعيق نمو المحار والكائنات المائية الأخرى مع انخفاض مستويات الأوكسجين. وصل متوسط درجة حرارة سطح المحيطات في العالم إلى مستوى قياسي شهر آب الماضي، وفقا للإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي، حيث دفعت موجات الحرارة البحرية بعض المناطق إلى ما يقرب من 100 درجة هذا الصيف.

ظروف متباينة
ويؤدي التغيّر في درجات حرارة البحر أيضا إلى تشويش أنماط هجرة وسلوك الكائنات الموجودة تحت الماء، مما يعني أن أسماك الدنيس البحري ذات الرأس الأسود هنا في ساحل ميساكا تصبح أكثر نشاطا خلال أشهر الشتاء وتتغذى على محار تيرادا الصغير.
لا يقتصر الأمر على تيرادا الذي يعاني من شحة الانتاج. قبل أربعة عقود، كانت هذه الدولة المحبة للسوشي واحدة من أكبر دول صيد الأسماك في العالم، حيث كانت تصطاد أكثر من 12 مليون طن سنويا في الثمانينيات. لكن واردات اليابان انخفضت بشكل مطرد على مدى السنوات العشر الماضية، لتصل إلى مستوى قياسي منخفض في عام 2022 عند أربعة ملايين طن، بانخفاض ما نسبته ثمانية بالمئة تقريبا عن العام الذي سبقه.
ومع تكيّف الأسماك مع المناخات الباردة، فإن بعض الأنواع مثل سمك الصوري والحبار الطائر في المحيط الهادئ تتحرك لمسافات أبعد في المياه المفتوحة وبعيدا عن متناول الصيادين اليابانيين، خاصة مع ارتفاع أسعار الوقود. أما الأنواع الأخرى التي يتم اصطيادها تقليديا من الشواطئ الجنوبية لليابان، مثل سمكة الذيل الأصفر أو الماكريل الإسباني، فإنها تعود إلى الظهور في المياه الشمالية، وفقا للمجموعات الصناعيّة. وفي كثير من الأحيان، يجب شحن تلك الأسماك جنوبا حيث المناطق الأكثر معرفة بإعدادها كوجبات طعام.
إن الارتفاع اللاحق في تكاليف المأكولات البحرية الطازجة يؤثر بشدة في المستهلكين والتجار اليابانيين، ففي شهر أيار الماضي، وصل تضخم أسعار الغذاء إلى أعلى مستوى له منذ 47 عاما، مع ارتفاع أسعار الأسماك بنسبة 15 بالمئة مقارنة بالعام السابق، وتجاوز ارتفاع أسعار اللحوم بنسبة تسعة بالمئة تقريبا.

أثر سلبي للمناخ
يقول “شين إيتشي إيتو”، الأستاذ في معهد أبحاث الغلاف الجوي والمحيطات بجامعة طوكيو: “إن استجابة النظام البيئي تتغير، فقد أصبح من الصعب للغاية التنبؤ بأصناف الأنواع التي ستزداد. يمكن للصيادين التكيّف؛ لكن بالنسبة لصناعة الأغذية، من منتجات الأسماك ومواد المأكولات البحرية، فمن الصعب للغاية التكيّف لأن معظم الشركات صغيرة جدا.”
بحلول العام 2021، حققت صناعة صيد الأسماك وتربية الأحياء المائية في اليابان نحو عشرة مليارات دولار. في ذلك العام، أطلقت وزارة الزراعة والغابات ومصايد الأسماك خطة لاستعادة إنتاج مصائد الأسماك إلى مستويات العام 2010 البالغة اربعة ملايين ونصف مليون طن تقريبا بحلول العام 2030، وتعزيز تربية الأنواع الجديدة والاستراتيجية، مثل الهامور والأصفر الذيل.
وقالت وكالة مصائد الأسماك التابعة للوزارة إنّها ستهدف أيضا إلى تعويض تأثير تغير المناخ من خلال تشجيع كهربة مركبات الصيد، وتربية الأنواع التي تتحمل الحرارة بشكل أكبر، وتطوير استراتيجيات لمساعدة صغار السلمون على البقاء في بيئات أكثر قسوة.
يقول “تاكاهيسا ياماموتو”، مساعد مدير تخطيط السياسات بالوكالة: “يتعيّن على الحكومة تغيير هيكل مصايد الأسماك على افتراض أنه لا يمكن صيد سمك السلمون أو سمك الصوري تقريبا في المياه المحيطة باليابان”، مشيرا إلى سمكتين شهدتا أكبر انخفاض في صيد الأسماك خلال العقد الماضي، ويضيف: “طالما استمر تغيّر المناخ، لا يمكننا التفكير في سيناريو أفضل.”
التغيرات في البيئة الطبيعية لا تقتصر على درجات الحرارة. ويتحسر بعض الصيادين على حدوث مد أحمر إقليمي أكثر تكرارا، وهو عبارة عن تكاثر سام للعوالق النباتية التي يمكن أن تلحق الضرر بالكائنات البحرية. كما يمكن أن تؤثر التقلبات في التيارات المحيطية الكبيرة حول اليابان أيضا على درجات حرارة المياه ونشاط الأنواع المحلية.
ويلقي آخرون اللوم في انخفاض الصيد على التدخل البشري مثل الصيد الجائر، الذي تحاول الحكومة الحد منه من خلال الحصص المشددة، أو نظام الترشيح الصارم في اليابان، والذي يعيد مياه البحر إلى المحيط دون مغذيات حيوية للحياة البحرية.

آراء مختلفة
وبأخذهم بنظر الاعتبار العوامل المختلفة والسلسلة الغذائيّة المعقدة تحت الماء، يتردد بعض الباحثين في الإشارة إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض والمياه الدافئة باعتبارهما السبب الوحيد لتناقص كميات الصيد. يقول “هيروفومي واشياما”، كبير الباحثين في معهد شيزوكا لمصايد الأسماك والتكنولوجيا البحرية: “يعد النظام البيئي معقدا للغاية، حيث لا توجد أدلة كافية لإثبات هذا الارتباط.”
لقد تحمّلت صناعة صيد الأسماك كثيرا في اليابان مخاطر الظواهر الطبيعية. وبالمقارنة، فإن التهديد الوجودي المتمثل في تغيّر المناخ يبدو أكثر خطورة من موجات التسونامي أو تغيّر المد والجزر في مايساكا، حيث يشكك الكثيرون في قدرة الحكومة اليابانية على تقديم الكثير من المساعدة. “هذه القضية تحتاج إلى اهتمام من قبل العالم كله. إنها على نطاق عالمي،” يقول تيرادا، مزارع المحار.
وفي الوقت نفسه، يبتكر الصيادون أساليبهم الخاصة لتعويض انخفاض كميات الصيد. منذ بضع سنوات، بدأ تيرادا وآخرون في تعليق الشباك حول رفوف الخيزران حيث يزرعون المحار لإبعاد الدنيس البحري، وهي تقنية تم اكتشاف تنفيذها ضمن بلدات زراعية أخرى قريبة. وعلى بعد عدة أميال، اختبر صيادو البطلينوس تدابير مماثلة لمنع الدنيس البحري من أكل محصولهم المحتمل، حيث قاموا أيضا بربط الشباك عبر الأعمدة في قطعة صغيرة من المياه الضحلة. لكنهم وجدوا أن المادة تتمزق بسهولة شديدة، مما يجعل الشبكة مليئة بالثقوب.
وفي هذا العام، تحولوا إلى استخدام شبكة سلكيّة مسطحة، تم وضعها فوق مجموعة من المحار الصغير الذي تم جمعه من محيط بحيرة هامانا ووضعها في الماء قبل ثلاثة أسابيع. وبعد ظهر أحد أيام آب الشديدة الحرارة، قام “يوسوكي كاواي”، 42 عاما، بفك الشباك المعدنية وجمع المحار بين يديه لفحصه، ليكتشف موت الكثير منه مسبقا.

نتائج مخيّبة للآمال
لقد أثبتت الشباك فعاليتها في ردع الدنيس البحري وكذلك القواقع البحرية المفترسة. لكن كان لدى كاواي شعور بأنهم وضعوا المحار في وقت متأخر جدا من النهار، مما عرضها لحرارة الظهيرة الحارقة قبل أن تتمكن من الهروب عن طريق الحفر في الرمال. يقول كاواي: “في ذلك الوقت، كان الأمر أشبه بحمام ساخن”، مقدرا درجة حرارة الماء بنحو 86 درجة.
قبل عقد من الزمان، كانت أعداد المحار وفيرة جدا في البحيرة لدرجة أن السياح كانوا يأتون لحصادها. وحتى قبل خمس سنوات، كان المحار يمثل حوالي نصف ما يصطاد كاواي كل عام. لكن على مدى العامين الماضيين، تضاءلت كميات صيده إلى لا شيء تقريبا، وهو الآن يكمل دخله عن طريق صيد أسماك الأنشوجة وزراعة أعشاب المرحضة، وهي سعف الأعشاب البحرية الصالحة للأكل التي تدخل في انتاج “نوري”، وهو عنصر أساسي آخر في المطبخ الياباني يستخدم عادة في لفائف السوشي. كما بدأ بتعلّم كيفية تربية الثعابين الزجاجية في العام الماضي أيضا.
تحاول وكالة مصايد الأسماك مساعدة الصيادين على التكيّف مع التحولات في الحياة البحريّة من خلال تعليمهم كيفية صيد أنواع مختلفة من الأسماك، الأمر الذي يتطلب وقتهم وأموالهم لتعلّم تقنيات غير مألوفة باستخدام المعدات الجديدة. وحتى ذلك الحين، فإن بعض الأنواع لا تستحق الاستثمار.
في ميساكا، ليس هناك حافز كبير للتحول إلى أسماك الدنيس البحري، حتى مع ارتفاع أعدادها، فهي لا تجلب سوى جزء بسيط من الأموال التي يمكن أن يجنيها الصيادون من الأنواع الأخرى، لأن الطعم أقل استحسانا، على الرغم من أن الحكومة المحلية تبذل قصارى جهدها لتشجيع الناس على تناول المزيد من الطعام، والعمل مع معالجي الأطعمة المجففة ومع المطاعم لابتكار عروض جديدة.

جهد حكومي
وتقوم الحكومة بتشجيع إنتاج الأعشاب البحرية أيضا؛ ولكن حتى ذلك أصبح أكثر صعوبة مع ارتفاع درجات الحرارة. في كاساوكا، وهي مدينة ساحليّبة تقع على بحر سيتو الداخلي، يدير “يوكي سينو” ووالده أحد آخر مزرعتي مادة النوري المتبقيتين في المدينة. عندما بدأ جد سينو في زراعة أعشاب المرحضة منذ نصف قرن، كان هناك نحو 50 مشغلا محليا. لكن زيادة تكاليف رأس المال والشيخوخة السكانية دفعت معظمهم إلى إغلاق متاجرهم.
حاليا، تتعرّض أعمال سينو لضغوط مع ارتفاع حرارة البحار. وابتداء من شهر أيلول، يقوم مزارعو النوري بربط بذور المرحضة بشبكة كبيرة منتشرة عبر سطح المحيط لحصادها في الفترة من تشرين الثاني إلى نيسان. ويؤدي الطقس الأكثر دفئا في الخريف والربيع إلى تقصير موسم الإنتاج، نظرا لأن درجات الحرارة المرتفعة يمكن أن تشوه النباتات وتجعلها أكثر عرضة للإصابة بالأمراض.
قبل أربع سنوات، بدأت عائلة سينو في زراعة نوع جديد من الأعشاب البحرية يسمى إيوانوري، والذي أثبت أنه أكثر مقاومة لدرجات حرارة الماء المرتفعة من سلالتهم التقليدية، سوسابي. ويمثل هذا النوع حاليا نحو عشرة بالمئة من الإنتاج، لكن سينو يقول إن الشركة يجب أن تزيد هذه النسبة من أجل البقاء. وقد بدأ هو ووالده أيضا في بناء شبكة مترامية الأطراف من النايلون هذا العام لإبعاد الأعداد المتزايدة من أسماك الدنيس البحري.
قبل عودة سينو إلى كاساوكا للعمل في شركة العائلة، كان والده يخطط لإغلاقها عندما يبلغ 65 عاما، وهو أمر تحقق قبل ثلاث سنوات. وأخبر أبناء سينو، 8 و11 عاما، والدهم بأنهم مهتمون بإدارة الشركة في النهاية، لكنه متردد في السماح لهم بتقييد أنفسهم بمثل هذا المستقبل الغامض.
يقول سينو: “بيئتهم ستكون أسوأ من بيئتي. لا استطيع أن أتخيّل كيف سيبدو العالم خلال خمس إلى عشر سنوات.”

صحيفة لوس انجليس تايمز الاميركية