إيمانويل ليفيناس.. النهاية لم تحدث بعد
أوس حسن
لم يركز الفكر الفلسفي كثيراً على العلاقة بين الأنا والآخر، إلا بشكل عابر ضمن مجموعة من المفاهيم والأنساق التي يتكون منها البناء الفلسفي، فالعلاقة مع الآخر ظلت تراوح في منطقة بدائية في الحقل المعرفي والنفسي، إذ كانت محصورة في حتمية الصراع الجدلي، أو بين علاقة الانفتاح والانغلاق من ضمن مساحة يحيط بها التوجس والخوف من أن تخسر الذات نفسها وأصالتها، فتصبح العلاقة بين الأنا والآخر رهينة الانسحاب إلى عزلة انفصالية مجردة تضطر فيه الذات أن تتحمل كل أنواع المعاناة والألم التي يفرضها القلق الوجودي على الكائن الذي ينكشف له العدم، لتبدو حركة الكينونة حركة زمنية تسير بشكل تدريجي نحو الموت.
ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأنّ الذات الوجودية عند هايدغر، والتي يجب أن تحقق وجودها في الزمن، هي ذات ساكنة وغير فاعلة لأنها تفتقد إلى الآخر، ولم تتجاوز بعد البناء الأنطولوجي والتعريفي للغة السائدة.
انطلاقاً من مفهوم الكائن هناك، أو الموجود هناك (الدازاين) عند هايدغر يرى الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس أن الزمن ليس مجرد أفق أنطولوجي للكائن، ولكن طريقة لِما بعد الكائن. أي عبارة عن علاقة الفكر بالآخر من خلال بعض الصور المتفرقة التي تجسدها النزعة الاجتماعية.. كالحب والصداقة والأبوة واللذة
الأيروسية.
لقد توصل ليفيناس إلى أنّ مفهوم الكينونة أو الوجود الإنساني الذي يشير إليه هايدغر لا يمكن أن يكون أصيلاً ومتفرداً بالفردانية المحضة وحدها، أو بالذاتية المتطرفة، وإنما هناك موجودات يتجه إليها الوعي، والموجودات الأساسية هي ذوات أخرى تستدعي الأنا للخروج من وجودها المجرد إلى علاقة فريدة مع الآخر من دون أن تفقد الأنا ذاتيتها. وعلى اعتبار أن الآخر أيضاً هو موجود متعين لا يمكن أن يرد إلى أي شيء مجرد في الوجود.
اعتمد ليفيناس على ظاهراتية هوسرل في الوعي وبنى مجموعة من الضرورات الأخلاقية والإنسانية في اللغة والوجود والزمن وعلاقتها بالكينونة التي تشترط وجودا آخر معها في علاقة أخلاقية قائمة على المسؤولية والاعتراف المتبادل. وقد اكتشف أن الكينونة أو الوجود الإنساني عند هايدغر عبارة عن صيرورة وحالة دائمة من الحركة والفعل، وهو ما سمّاه فعل الوجود أو حدث الوجود.
يعتقد ليفيناس أنّ فعل الوجود هو الذي يسبق الوجود والموجودات جميعها.. ففعل الوجود هو الدلالة أو الأثر الذي يتركه غياب الفعل في الأشياء، فلو أن كل الأشياء والموجودات في هذا العالم استحالت إلى عدم محض، ولو غطى الظلام نور العالم، يبقى هناك دائماً شيء وحيد ودال هو فعل الوجود.
إن الإنسان يولد في عالم ممتلئ بالوجود، ويكون محاطاً بالأشياء والكائنات وغيره من البشر، لذلك فالإنسان يولد مقذوفاً إلى فعل الوجود الذي يسبق وجوده، وهذا ما يحتم عليه أن يدخل في فعل الوجود، وفعل الوجود يحتم عليه أن يصطدم مع الآخر في علاقة اندماجية ذات طابع ميتافيزيقي روحي يتخللها فعل الوجود ليعلو على الزمن واللغة.
إن (الأنا) لا تشمل الذات وحدها، وإنما الغيرية أيضاً، فنحن عندما نفكر، لا نفكر في أنفسنا فقط، وإنما في الآخر ضمن مجال تفكيرنا، وتفكيرنا في أغلب الأحيان يكون منصباً نحو الآخر ومتركزاً فيه بكثافة.
وعليه، فإن العلاقة مع الآخر عند ليفيناس تنطلق أولاً من مجال التفكير، وتحاول أن تجد لها واقعا فعلياً في الحوار الذي يتغلغل إلى فكر الآخر ويعطيه قيمة مشتركة، فيصبح الأنا هو الآخر بتعدديته وانفتاحه وعوالمه الداخلية الصامتة.
وتقوم العلاقة مع الآخر عن طريق الوجه، لكن الوجه الذي يقصده ليفيناس ليس هذا الوجه المادي والتجسيمي الذي يملكه الإنسان، وإنما البصمة الفردية المختلفة والهوية الداخلية لأعماق الإنسان وما تحويه من رموز وايحاءات ونبرة في الصوت ولغة في الجسد.
إن العلاقة مع الآخر تبدأ عند ليفيناس كوجه وانكشاف على اللاتناهي، لذلك فهي علاقة غير مشروطة علاقة تنصت فيها الذات للآخر باهتمام، وبدون أي افتراضات أو محاكمات عقلية مسبقة. بحيث يصبح هذا الوجه تجليا ًللخالق في المخلوق.
وهذه العلاقة التي يفترضها ليفيناس مع الآخر لا يجب أن تكون في حالة تكافؤ أو تطابق، ولكن في علو مستمر على الذات.
قد يتساءل القارئ كيف تُبنى علاقة على عدم التكافؤ والتطابق، وكيف تعلو الذات على نفسها؟
ما يقصده ليفيناس في عدم التكافؤ أو التطابق ليس بالمعنى الذي يدل على عدم المساواة أو على تميز شخص على آخر، وإنما بتجسيد إنساني خلّاق لبعدي التناظر والتقابل، أي يجب أن تكون هناك مسافة بين الأنا والآخر، من أجل أن لا تذوب الذات في الذات الأخرى أو تبتلعها عن طريق التعلق ببعض الأفكار أو المهارات أو السلوكيات الشخصيّة التي قد تكون مفقودة عند كل من الأنا أو الآخر، فهنا تحصل التبعية والابتلاع.
ولا يجب أن تكون العلاقة قائمة أيضا ًعلى أساس الهيمنة والرغبة في التملك أو لتعويض نقص ما، فيتحول طرفا العلاقة إلى مجرد مواضيع أو أدوات للرغبة؛ وإنما بالانفتاح الكلي من الداخل وشرط التخلي عن النزعة السلطوية للأنا، بحيث تتوحد الأنا والآخر في علاقة لا تكون محدداتها البنى المادية والنفسية المفقودة، وإنما بمعطيات الحدس الداخلي و بالشكل الذي يجعلها تتعدى الإدراك الحسي المعتاد وتعلو على الزمن، بحيث يمكننا أن نبصر في الآخر الأبعاد الزمنية ونتجاوزها.
يقول ليفيناس: «نحن مشغولون بالذات وحدها كونها وجوداً، لكن وحدة الذات تستند إلى علاقتنا مع فعل الوجود، والتوجه نحو فعل الوجود يعني الابتعاد عن الانشغال بالذات أو من الإطار المادي للذات، لتتوجه نحو الآخر وتحررنا من كل علاقة مع المستقبل والماضي».
يحاول ليفيناس أن يصل إلى مفهوم يشبه مفهوم غابرييل مارسيل عن السر أو اللغز الذي يتم فيه التواصل بين الأنا والآخر، إلا أنّه يسمي تلك الأسرار بنزعة في الوجود، وهي أكثر عمقا وشمولية من ميتافيزيقية مارسيل، فتجربة الموت وغموضه، وما يمر به الإنسان من ألم ومعاناة هي نزعات وجودية لا تتوحد فيها الأنا مع الآخر فقط، وإنما الذات مع ذوات متعددة أيضاً بعطاء غير محدود وبقيم روحية تعلو على الوجود نفسه.
يذهب ليفيناس إلى أنّ الزمن ليس حدثاً لموضوع ذات وحيدة ومنعزلة، لكنه يمثل علاقة الذات نفسها مع الآخر. وبناء عليه فإن مفهوم الزمن الذي يتطلب فعل الوجود بين الموجودات يرتكز على الأنا والأخر، ليصبح الآخر هو الزمن أو الزمن هو الآخر.
وهذا ما سيحدده البعد الأخلاقي الذي يسبق الدخول في الحوار و مستوى اللغة التي تجاوز نفسها.
قام ليفيناس بتأمل اللغة ورموزها بوصفها حدثا ًأساسيا ًله دلالته الفاعلة والمؤثرة في الوجود البشري وفي نمط الكينونة وعلاقتها مع العالم الخارجي، لذلك فقد قام بتقسيم اللغة إلى مستويين أساسيين: المستوى الأول وهو مضمون الكلام، وهذا المستوى هو أنطولوجي أبستمولوجي مهمته الكشف عن البناء الاجتماعي العام للمعنى، وعادة ما يكون محكوما ًبالمنطق ويعكس صورة التمظهرات العقلانية في العالم ويشمل التاريخ والسياسة ونسق الخطابات المتداولة في المجتمعات الإنسانية، ويرى ليفيناس أن هذا المستوى من اللغة هو المستوى الوحيد الذي قامت بتحليله بعض الأنظمة الفلسفية والمعرفية مثل الدراسات اللغوية والبنيوية التي قامت بتقسيم العالم إلى مجموعة من الأدوات والأنساق، واقتصرت في تعاملها مع اللغة على أنها فقط مجموعة البنى والشبكات التي نستمد منها معرفتنا بالعالم.
يعتبر ليفيناس أن العديد من الطروحات البنيوية في اللغة والمعرفة هي طروحات مضادة للإنسان والإنسانية، لأنها قامت بتذويب الإنسان وصهره في مجموعة من الأنظمة والمفاهيم؛ متناسية أن اللغة قبل كل شيء هي الروح التي تسري في العالم وتحمل معها عاطفة الإنسان وآماله ومعاناته، فاللغة كرم وصداقة وضيافة، ودعوة للإنصات تنشأ من الاهتمام المتبادل والاستجابة لنداء الآخر على حد تعبير ليفيناس.
أما المستوى الثاني فيسميه ليفيناس بالمستوى الأخلاقي للغة، وهو المعيار الأخلاقي قبل كل علاقة وكل حوار، ويتضمن بداخله مسؤولية والتزاماً تجاه الآخر. هذا المستوى سابق على أي لغة تاريخية وهو يشبه فعل الوجود الذي يسبق الوجود، إذ تدخل اللغة هنا في مغامرة وانكشاف مستمر على المطلق واللامتناهي، فتسمو تلك اللغة وتتمدد خارج كل تعبير يحاول أن يجعل من القول مضمونا له فكرة ومعنى، مما يفقد الآخر طبيعته المجاوزة للغة، فكل محاولة للتعرف على الآخر أو تعريفه تمثل محاولة لتهديد آخريته.
إن اللغة في مستواها الأخلاقي تتجسد في أن يكون الحوار عفوياً وغير مخطط له مسبقاً، فكل تخطيط للكلام هو قيد وعبودية، وعبءٌ ثقيل علينا، لا بد أن يكون الحوار حرية وروحا ًتتجلى في الطرفين، بحيث يصبح الصمت ممكناً، ولغة أخرى تعبر عن نفسها بلا حروف ولا أصوات.
إن الغموض والترقب والانتظار، وهذه الفجوات الصامتة التي تتلاشى فيها اللغة، هي من تجسد فعل القول بوصفه حدثاً وفعلا ً يذكرنا بما وراء الوجود من ذوات وإرادات، فتخرج اللغة من ارتباكها وضعفها وتداولها اليومي المحدود إلى فضاء لا متناهٍ يملك مساحات ومسارب خفية للتعبير والإبداع.
أخيرا ً يتكلم ليفيناس عن الأفعال ودورها الاستثنائي في اللغة، فالأفعال يجب أن يكون لها الأولوية في المستوى الثاني من اللغة، أي أولوية القول على ما يقال.
إن الأفعال كما يذكر ليفيناس هي حركة وأحداث وتذكير بالزمن، فالفعل الماضي تذكير بالحاضر والمستقبل، والأفعال تشير إلى فعالية في الوجود، وإلى أنّ الوجود موجود ومنجز ويحيل دائما ًإلى ما هو مفارق.
الأفعال تعني أن النهاية لم تحدث بعد، فخلف كل فعل حدث جديد دائماً، حدث لم يتحقق بعد.