عادل الصويري
أُفكِّرُ في الطِفْلِ الغَزّاوي، يَقفُ مُبْتَسِماً خلفَ المُراسلِ التلفزيوني، يُلَوِّحُ لنا نحنُ المُحَنَّطينَ خَلفَ الشاشاتِ. رُبّما يقولُ: مرحباً، أو رُبَّما وداعاً، فهذه تلويحةٌ أخيرةٌ، تنتظرُ قذيفَتَها المُؤجلة؛ لتكونَ بعدَ قليلٍ حمائمَ بيضاءَ في مانشيت أحمر حزين.
الزمنُ في المانشيت، لا يُشبهُ الزمنَ في الكلامِ المهدورِ على البرامج الباردة. يُسْرِعُ بأرواحِ الصغارِ، كأنَّهُ مُعادلٌ موضوعيٌّ لسلحفاةِ الإنسانيةِ الماشيةِ على خِزْيِ القوانينِ الدوليةِ. والتلويحةُ مِنَ المانشيتِ، تمائمُ وأدعيةٌ، تطشُّ مِلْحَها بينَ شُقوقِ الأحجارِ، وفي الفتحاتِ المستحيلةِ للرُكامِ، وفي زوايا الأممِ المتحدةِ، والاتحادِ الأوروبي، عسى تتبدَّلُ طاقتنا نحنُ المُحنّطينَ خلفَ الشاشات.
وبينَ الزَمَنِ والتلويحةِ، تتكدَّسُ الأرقامُ في بياضِها شاهدةً على قَمْحِ الوعودِ المُنْتَظِرِ على معبرِ الضميرِ المُقْفَل. تتكدّسُ الأرقامُ في بياضِها، بانتظارِ الماءِ الذي صارَ يهمسُ للغزّاويّينَ أن استتروا بكربلاءاتِكم الجديدة.
تتكدَّسُ الأرقامُ في بياضِها شاهدةً على (هبة أبو ندى)، وهي تُلقي قصيدتَها على الغيابِ، فالحضورُ عائمٌ في الارتباك، منكمشٌ مثلَ قائمة أصدقائها. قالت هبة عن قائمةِ أصدقائها إنها «تتحولُ إلى توابيت صغيرة تتناثرُ هنا وهناك. لا يمكنني إمساكُ أصدقائي وهم يتطايرون بعد الصواريخ. لا يمكنني إعادتهم من جديد، ولا يمكنني أن أعزّي فيهم، ولا يمكنني البُكاء، لا أعلم ماذا أفعل. كل يوم تنكمش أكثر، هذه ليست أسماء فقط، هؤلاء نحن بوجوه وأسماء مختلفة فقط».
تُلقي قصيدَتَها على الغياب، فالحضورُ مرتبك، ومنكمش، تماماً مثلنا نحنُ المُحنّطينَ على الشاشات.
مِنَ التلويحةِ خلفَ المُراسِلِ التلفزيوني، تطلعُ (شيرين أبو عاقلة)، تفتحُ للمياهِ كتابَها، نافورةُ الشهداءِ من خلفِ السطورِ تقولُ للقُرّاءِ: لا تَتَصَفَّحوا وفقَ التسلسُلِ، فالشهيدُ بدايةٌ في أيِّ رُكْنٍ من كتابِ القُدْسِ تلقاهُ العيون. كم نَقَّطَ الشُهداءُ يشماغَ النهارِ، وكم غَفت فيهم شموسُ. يشماغُها قرأَ ابتسامتَها، تنقَّطَ من وصيَّةِ روحِها. (شيرينُ) أوصت: لا تثقْ إلاّ بدبكتِكَ العنيدةِ، فهي طفلتُنا الوحيدةُ والجميلةُ، وهي جدَّتُنا التي نأوي صغاراً قُرْبَها؛ لتبوحَ في الليلِ الفلسطينيِّ أسراراً عن البَدْوِ الذينَ يُصافحونَ بِعُهْرِهم، كانت مصافحةً بلا عينين، والخدرُ التماعُ. شيرينُ قالت: لا، سَنَدبكُ في النهارِ ويُكْشَفُ الزمنُ القناعُ.
يقفُ الطِفْلُ الغزّاويُّ مُلَوِّحاً خلفَ المُراسِلِ التلفزيونيِّ، تقولُ تلويحتُهُ: لا تصدقوا المانشيت إن أخبركم باتصالٍ هاتفيٍّ جرى بين حاكمٍ عربيٍّ، ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي أكّد دعمه وحرصه على حماية المدنيين. ولا تصدقوا المانشيت إن قال لكم مقتل آلاف الأطفال، فنحنُ شهداءُ رغماً عن أنف سكاي نيوز.
وبالمقابل صدِّقوا المانشيت إن قال لكم (معلش)، ووجدتم (وائل الدحدوح) في النشرة الخبرية. صدّقوا المانشيت إن رسمَ أشجارَ العوائلِ الجديدةِ في الفردوس، حين تكون كل الأغصانِ أطفالاً بأجنحة. صدِّقوهُ إن شعرتم أنَّهُ تجاوزَ الزمنَ وسياقَ القناةِ التي تعرضهُ أمامكم. إن فعلتم هذا؛ تأكدوا أنكم لستم محنّطينَ خلف الشاشات.