عندما يكون الغناء فنَّ المقاومة

ثقافة 2023/11/08
...

 وارد بدر السالم

الأغنية الوطنية ضد النسيان دائماً. تكتنز في ذاكرة الزمن على مدار الأجيال المتوالية. لهذا فإن الفن بجمالياته، التي لا تحصى هو لحظة مستديمة ضد الخراب، والأغنية الوطنية ضد الموت. وكل ما هو جمالي يبعث الحياة يقيناً بأنه ضد الوحشية والشر والفوضى والحرب. وعندما نكون في غزة العربية، ونسمع أصداء الحناجر وهي تنشد لها، وتشد من عزم المدينة وأهلها في قصائد مرتجلة وخواطر باكية وصارخة وأغنيات داخلة أو خارجة من الحرب، نكون في حالة تجلٍ إنسانيَّة وانغماس روحي يخرج عن الزمن المعتاد إلى زمن الكرامة الفلسطينيَّة، التي تعيد أمجاداً تكاد تكون مندرسة في ألعاب السياسة المضنية.

وهي الحالة التي تتوافق مع الشروع الفلسطيني في طوفان الأقصى، الذي هيّأ مستلزمات النصر بشكله المبسّط، لكنه الشكل الأكثر قوةً ومضاءً. 

شعوب العالم المحتلة كلها تقاتل من أجل استرداد حرياتها، وتحديد مصائرها الشخصية. 

لذلك نجد أن الفن يضطلع؛ على مسمياته المتعددة؛ بتثوير المشاعر وتجييشها وترجمة الأفعال البطولية في القتال إلى كلمات وصور وحناجر تصدح به. 

وما يحصل اليوم في غزة ليس استثناءً من قاعدة البحث عن الكرامة الوطنية والحرية العامة لشعب مكافح ومناضل. بل هو الحد الأدنى من استرداد الكرامة العربية التي سفحها حكام ورؤساء وسلاطين في أزمان متعاقبة من النكبة الفلسطينية. وبالتالي فإن صوت غزة هو صوت الأحرار في كل مكان من هذا الكوكب التعيس.

وبلا شك فإن أقرب الفنون إلى تثوير الأحاسيس العربية، هو الفن الغنائي والمارشات العسكرية، والأناشيد الحماسية المواكبة للمعارك الضارية التي تدور في غزة. وهو نوع من الصمود والمقاومة لعدو 

محتل. وهذا ليس بالشيء الجديد على الساحة العربية، فالأغنية الحماسية، أو أغنية الحرب، ارتبطت على نحوٍ واضح بالمعارك الكبيرة مع الكيان الصهيوني. 

وتجسدت بطريقة مؤثرة في الحروب معه، لا سيما في حربي 1967 و1973 التي مثلت متناقضين متغيرين في سيكولوجية الانتصار (عبور خط بارليف شديد التحصين- 1973) والهزيمة أو ما تسمى بالنكسة النفسية والاعتبارية التي سبقتها في عام 1967 وعندما نكون الآن على خطى غزة، يكون للأغنية الحربية وقْعٌ آخر، ومساحة أكبر في فضاء القطاع المنكوب في قتاله عدواً شرساً لا يعبأ بقتل الصغير والكبير، وإشاعة الخراب والفوضى وبث الذعر والخوف.

وبالتالي فإن الفن، متمثلاً بالأغنية الحماسية، هو أقرب الأجناس الفنية والأدبية لتفعيل المشاعر والأحاسيس، وإشاعة روح التفاؤل، وتوطيد الصلة النفسية بالمكان والزمن والحالة العامة التي يتمسك بها أهل غزة والفلسطينيون عموماً. ومن ثم هو رابط اعتباري داخلي قوي للجماهير العربية التي ترى غزة رأس الرمح في مواجهة كيان غاصب.

في تواريخ الشعوب التي عانت من الاستعمار والغزو والاحتلالات الأجنبية، يتصاعد الفن الغنائي والأناشيد الحماسية بطريقة راقية وسريعة، لا تنتظر تقييماً فنياً ونقدياً، بقدر ما تعبّر عن اللحظة الخارجة عن زمنيتها الاعتيادية، سواء أكان ذلك بالغناء الجماعي أم الفردي، كما حدث في الحرب الفيتنامية الأمريكية، بشيوع الأغنيات المؤازرة للفيتناميين في كل أوروبا، لرفض الحرب، وإدانة القوات الأمريكية الغازية، ويمكن استطلاع ارشيف الحرب هذه لنقف على الكثير من المشاهير، الذين ناصروا القضية الفيتنامية ورموزها، والمضايقات التي تعرضوا لها، وهي كثيرة تشير إلى وعي الآخر بما يحدث من جرائم وانتهاكات. 

فالإنسان الحر؛ أينما يكن؛ يشعر بفجيعة الإنسان المحاصَر. كما يحدث الآن في أوروبا كلها، وقد شاعت التظاهرات والأناشيد الحماسية والأغنيات الشعارية المرتجلة لنصرة فلسطين البعيدة جغرافياً عنهم. لا سيما الأغنية السويدية (Leve Palestina - تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية) التي اكتسحت العالم الغربي والعربي بحضورها المؤثر، ونغمتها الحماسية المباشرة في تقديم الألم الفلسطيني إلى العالم الحر في الجانب الآخر من الحياة. وإيقاعها الفني الراقص على أنغام صوت أنثوي سويدي لا نشك لحظة واحدة من أنه صوت مؤثر، بالغ الحساسية في تدوين المأثرة الفلسطينية. مع أن هذه الأغنية- النشيد- الأيقونة ليست جديدة، بل هي من نتاج سبعينيات القرن الماضي، لكن السويديين يعيدونها في كل مناسبة تخص فلسطين، وشاعت مؤخراً على نطاق عالمي وترجمت إلى أكثر من لغة، لاسيما بعد شيوع وسائل الاتصال الإلكترونية.

 الغناء العربي المصري تقدم على غيره من الفن العربي في هذا الميدان. 

وتقدم ملحنون وغنائيون واجهة المشهد الحربي في الحروب كلها: محمد عبدالوهاب. كمال الطويل. سيد درويش وبليغ حمدي وغيرهم . ولا شك أن ملحنين ومطربين آخرين قدموا للأغنية الحربية الوطنية ما يمكن له أن يبقى طويلاً. وفي خضم الأناشيد والأغنيات الوطنية العربية نقف بإجلال إلى نشيد محمد سلمان (لبيك يا علم العروبة كلنا نفدي الحمى)، الذي لا يزال يثير الحماسة الشعبية العربية إلى هذا اليوم.

 وقد تكون ثقافة الغناء الغربية أقدم من الثقافة العربية، بسبب انهماكها في الحروب الداخلية والخارجية، كما حدث في ألمانيا النازية (أغاني البوب) وايطاليا (أغنية بيلا تشاو) والحلفاء (سمفونية بتهوفن الخامسة) وليننغراد (سمفونية شوستاكوفيتش السابعة) أما أغنية "كاتيوشا" الأشهر بين أغاني الحرب التي كتبها الشاعر ميخائيل إساكوفسكي، فقد انطلقت إلى أرجاء العالم، بالإيطالية مرة وبالصينية مرة. ولا تزال أغنية المواسم القتالية في كل أنحاء العالم، فكاتيوشا الرمز الأممي للشعوب التي تبحث عن حرياتها في أجواء الحروب والاحتلالات.

الفن الغنائي الفلسطيني وهو المعني بقضيته، استلهم روح البطولة في كل المعارك التي خاضها مع الكيان الصهيوني، وانتمى في معظم أصواته إلى الكنز الشعبي الفلسطيني الفعّال، لتثوير الذاكرة الشعبية وجوهر الحماسة في الروح الفلسطينية، واستذكار التراث الوجداني في النفوس الحيّة التي تواجه مصائرها أمام كيان محتل، مثلما فعلت الفنانتان الراحلة ريم بنا وكاميليا جبران اللتان أيقظتا المشاعر الوطنية والجمالية في روح الفلسطيني والعربي على حد سواء. ومثلهما الفنانة المتجددة سناء موسى، التي أحيت نوعاً غنائياً مشفرا يسمى "الترويدة" و"المولالاة" ونظّرت فيه في لقاءات كثيرة لهذا التراث الشعبي الباقي في صدور الأهالي.

فن المقاومة الفلسطيني شائع منذ سبعين عاماً، والأغنية والأناشيد الحماسية الوطنية لا تموت عن الفدائيين الذين بصموا على الذاكرة العربية طويلاً، وما زلنا نحفظ الكثير من الغناء الفلسطيني المقاوِم، الذي لا يمكن أن يموت أو يُنسى. 

الأغنية الوطنية ضد النسيان دائماً.