إكليل الشوك الذي تتوارثه رؤوس المُسحاء

ثقافة 2023/11/08
...

أحمد عبد الحسين



مواضع الحقيقة دهشٌ وحيرةٌ، والقائلُ بها على شفا نهايته دائماً. تخبرنا سِجلّاتُ مَنْ قالوا الحقائق الكبرى أنهم قُطّعوا إرباً. عرفنا في الكتب مسحاء وحسينيين وحلاجين كثراً، وأكثر منهم مَنْ لم نعرفهم. وكلٌّ كان لكلمته ثمنٌ نهائيّ هو حياته.

هذا عمل للفنانة العراقية “هناء مال الله” عنونته بهذا العنوان الذي يذهب إلى مغزاه مباشرة من دون التفاتات بلاغية: The Price Of Saying The Truth “ثمنُ قول الحقيقة”. تلتقطُ هنا رمزاً مشبعاً بحمولة دينيَّة ووجدانيَّة عالية: إكليل الشوك الذي وُضع على هامة يسوع المسيح قبل صلبه بقليل. فلماذا اختارت المسيح؟

لم يقل المسيح كلمة الحقّ وحسب، كان هو الكلمة، وإذا كان نَطَق بالحقيقة فلأنّ وجوده كلّه مفضٍ إلى الحقّ. وإذْ وقف الناس ذوو القوة والمال والسلطان الدنيويّ والدينيّ أمام هذا الحقّ ذي الجسد الناحل، وضعوه أولاً بين لصين، ثم قالوا له ساخرين: أنت ملكُ الملائكة وهذا تاجك. وألبسوه إكليل الشوك تاجاً على رأسه.

كان صلبه بين لصين محكومين بالموت من شأنه خلط الحقّ بالجريمة وتتفيه الحقيقة إلى الحدّ الذي تصبح فيه مساوية للصوصية بدليل أنَّ جزاءهما “الجريمة والحقيقة” واحد. أما الإكليل فهو الأيقونة المضادة الساخرة التي ستبطل سحرَ الكلمة وقوّتها. إنها أشبه ما تكون بقهقهة شيطان أمام مزمور إلهيّ. كأنما رؤية الإكليل على الرأس تقول للناس إنَّ محصلة قول الحقيقة شوكٌ لا ثمرة فيه.

حين نقول عن أمرٍ إنَّه شائكٌ، فهو تحذيرٌ من الخوض فيه لأنّه جارح، والنصال التي في الشوك كثيرة وحادة ومنظرها يكفي للتراجع عن المحاولة. وإذا كنت مصراً على قول الحقيقة كاملة فإنَّ الشوك سيكون على رأسك تاجَ سخريةٍ يجعلك ملكاً ـ مضاداً مثيراً للضحك.

لم أحبّ يوماً الأيقونات التي تضع على رأس المسيح تاجَ ذهبٍ بوصفه ملك العالم، فسرعان ما ينصرف ذهنُ من يراها إلى ملوك الأرض. ومثلها أيضاً تلك الأيقونات التي أبقت على إكليل الشوك لكنها جعلته ذهبياً وجعلت النصال طيّعة وملتوية ويلتقي نصلٌ مع آخر لتكوين ما يشبه الأقواس حتى يبدو الإكليل في آخر الأمر أشبه بالتاج الملوكيّ. تشعر أمام هذه الأيقونات أنها أغفلت الثمن الذي سدّده المسيح لقاء قول كلمته، ويخطر لك أنَّه مات حقاً ولم ينتصر، لأنّ ثبات تاج الشوك على رأسه أقوى إمارات انتصارالمسيح.

في أيقونة هناء مال الله، هناك إكليل الشوك وحده من دون مسيح، وحده باللون الأحمر، لون الدم لكنْ لون الخطر أيضاً، من دون رأسٍ كأنَّه معدٌّ ليستقرّ على رأس كلّ من يريد قول الحقيقة.

والجملة التي تتوسط الإكليل، التي هي عنوان اللوحة، هي العنوان الصادم الواضح المباشر للمغزى الذي تختزنه تجاربُ المسحاء أمس واليوم وغداً وإلى الأبد. لكنها اليوم أبلغ. فالجملة المكتوبة بالانكليزيَّة دالة على رهان مسحاء اليوم الذين يقولون كلمتهم وأمامهم، نصب أعينهم، يرون أكاليل شوك حمراء تترصدهم.

اللوحة ناظرة بكلتا عينيها إلى ما يجري في غزة من حملة إبادة جماعيَّة ومن قتلٍ للأطفال وتهديدات بالرعب النوويّ، لكنها ليس فيها إدانة للقتل وحسب. الإدانة هنا تتوجّه لا إلى قتلة الأبرياء فقط بل إلى قتلة مَنْ يسمّي المذبحة، القتلة هم أولئك الذين يترصدون الفم الذي يريد أنْ يقول عن الأفعى إنها أفعى، لأنّ الجريمة التي يرتكبها العالم اليوم مرّكبة، هناك قتل ذريع للأبرياء يرافقه قتلٌ لكلّ من يحدث نفسه بإدانة الجريمة.

نزعتْ الفنانة إكليل الشوك من على رأس يسوع ووضعته على رؤوسٍ كثيرة فيها مسٌّ من المسيح لأنَّ أصحابها لم يريدوا أنْ يكونوا شهوداً صامتين على ما يحدث في جلجلة غزة.

في إكليل مال الله، انتصارٌ للكلمة المدمّاة، فهناك نصلٌ شوكيٌّ تحوّل إلى طير، ونصلٌ آخر اتخذ شكلَ بذرةٍ خرجتْ منفردة تبحث عن أرضٍ لتنبت فيها.

هذا الإكليل الأحمر الذي يتنقلُ على رؤوس المسحاء جيلاً فجيلاً، يقول إنَّ لكلّ جريمة شهوداً صامتين يكررون يهوذا وعذاب ضميره، وشهوداً سيقولون الحقيقة لكي يستحقوا أنْ يوضعَ هذا التاج ـ الإكليل على هاماتهم.