ما الذي تقدّمه عنوانات الكتب لقرّائها

ثقافة 2023/11/08
...

البصرة: صفاء ذياب




(“العنوان” ليس بنية نهائية، إنَّما هو بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي تحتها، فالعنوان- بهذه الكينونة- بنية افتقار، يغتني بما يتّصل به من قصة ورواية وقصيدة، ويؤلّف معها وحدة على المستوى الدلالي، وبسبب من وظيفته التأويلية، يقول إيكو، فإنَّ أحداً لن يستطيع الإفلات من إيحاءاته التي يولّدها، ولن يفهم العنوان منقطعاً عن نصّه، ولا تُدرك إشاراته إلاَّ عبر العلاقة بينهما).

يفرد القاص الراحل محمود عبد الوهاب كتاباً خاصاً عن العنوان وطرائق اختياره في كتابه (ثريّا النص)، الذي يعدُّ من أوائل الكتب التي تناولت بشكل خاص هذا الموضوع، ومن ثمَّ يكون العنوان حياة جديدة تضاف للنص الأدبي، فضلاً عن النص النقدي الذي غالباً ما يوثّق العلاقة بين متن الكتاب وعنوانه الرئيس.


الكثير من الكتّاب ينظرون للعنوان على أنّه ثانوي، في حين يراه آخرون مدخلاً مهماً لجذب القارئ لقراءة النص، في حين يرى الناشرون أنَّ العنوان مثل جمالية العلبة التي تقدّم بها الهدايا، فلا يمكن أن نلتفت لعلبة رثّة ذات ألوان باهتة، لذا علينا أن نقدّم الكتاب بعنوان جذّاب، يعبّر عن محتوى الكتاب، وفي الوقت نفسه يقدّمه للقارئ بالشكل الصحيح..

إلاَّ أنَّ هناك الكثير من العنوانات أدّت إلى إهمال الكتاب وحوّلت التفات القارئ إلى كتبٍ غيره لأسباب كثيرة سنتناولها هنا، وهذا من الأسئلة التي قدّمناها أيضاً، فهل هناك عنوانات شعرت أنَّها أكبر من الكتاب نفسه؟ وهل يمكن أن يجذبك كتاب ما بسبب عنوانه من دون النظر للمؤلف أو فهرس الكتاب؟

 الدلالة والتسويق

يقول الدكتور علي المصلاوي إنَّ العنوان هو العتبة الأُولى والأَهم بالنسبة لأيِّ نتاج كتابي، لأنَّه سيُحدث جذباً إيجابياً إقبالاً عليه أو نفوراً سلبياً إدباريّاً منه.. ففي النهج الأكاديمي نجد أنَّ شريطة التوافق والتعالق بين عنوان الرسالة أو الأطروحة ومحتوياتها شيء مفروغ منه؛ ويحاسب الطالب في حال عدم التوافق والبعد غير المبرّر بينهما، فلابد أن يكون كلُّ فصل متعلّقاً بالعنوان ناشئاً منه ومتصلاً به بسبب وعلقة.

وفي حال تحويل هذا النتاج من حيّز المخطوط الأَكاديمي إلى النشر يشار على صاحبه بتغيير العنوان جملة وتفصيلاً أو تغييره بشكل جزئي؛ المهم أنَّ كثيراً من العنوانات الأكاديمية تغيَّر في حال طباعتها كتاباً، وتنظر دورُ النشر إلى العنوان بمثابة مفتاح لعقل القارئ وجيبه في آن معاً، ولربَّما نظر المؤلّفُ نفسه إلى هذه الزاوية وقام بالتغيير قبل أن يرسل مُؤلَّفه.

مضيفاً: وجدنا كتباً عنوانها في جهة ومادتها في جهة أُخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر كتاب (دير الملاك) فالعنوان الأَول البارز على الكتاب لا علاقة له بالمادة مطلقاً، لكنَّ اسم الكتاب أصبح أيقونة معروفة لدى نقّاد الشعر الحديث وأدبه بعدما ذُيِّل بعنوانه الحقيقي وهو (دراسةٌ نقدية للظواهر الفنية في الشعر العراقي المعاصر).

ونجد أيضاً بعض الكتب تجذبك بعنوانها البرَّاق الكبير، ولكن حين تفتّش ما في داخله لا تجد محتوى ذا بال، وغالباً ما يوصف بالقول العامي (بطرك العنوان) دلالة على فراغه وخوائه المعرفي والعلمي، ولربَّما لعدم جدَّة مادته وتقليديتها طرحاً ومعالجة.

ولعلَّ هذا الأَمر أصبح ظاهرة واضحة في الآونة الأَخيرة، إِذ نجد ثمّة صناعة للعناوين ناتجة عن قراءة نفسيَّة دقيقة لأمزجة ومخيلة شريحة كبيرة من القرَّاء، فكلَّما كان العنوان متفرِّداً صادماً ملبِّياً لتلك الأَذواق أصبحت سوقه رائجة جاذبة، وليس ببعيد عنا كتاب (نظرية الفستق) الخاص بطرق التفكير والسلوك والحكم على الأشياء..

ولعلَّ أنصاف المثقفين وقليلي الخبرة من يشتري كتاباً لمجرّد أنَّ عنوانه يجذب أو يصدم ولا يكلِّف نفسه عناء النظر في محتوياته، وقراءة بعض من صفحاته لمعرفة أسلوب صاحبه في الطرح والمعالجة.

 واجهات لفظية

ويوضّح الفنان والكاتب هاشم تايه أنّه في ضوء تراكم خبراتنا، وبحكم تجاربنا في صلاتنا مع ما ننتقيه لمكتباتنا الشخصية من كتب، صرنا نكتشف، يوماً بعد آخر، أنَّ عنوانات الكتب مهما تكن مثيرة، جاذبة، مستفزّة لا تكفي لتقدير قيمتها الحقيقيّة، ولا ترفع من شأنها، ما دامت مجرّد واجهات لفظيّة منمّقة تحرس، بلا كفاءة، إضمامةً من الصفحات الخاوية. (الكلام هنا على ما يصدر بيننا من كتب). والنتيجة عنوان جاذب للتغطية على كتاب متواضع. حتّى أنّنا صرنا نشهد إفراطاً وتهويلاً ومبالغات تسرف في انتخاب عنونة ملعلعة- مضحكة أحياناً- ليس تحتها ما هو جدير بها.

نتفق جميعاً على أهميّة العنونة؛ فهي المصافحة الأولى في رحلتنا مع كتاب ما، المصافحة التي نفترض أنّها تدفعنا إلى صداقته في زمن صفحاته. لكنّها- العنونة- جاذب أوليّ، مهما كانت، علينا أن نحترس من خداعه، وتضليله، وتنطّعه. ونحن، عموماً، في ضوء تجاربنا، لم نعد نذهب إلى الكتب بإغراء ما تحمله من عنوانات، بل بتقديرنا لمكانة مؤلّفيها العلمية والإبداعية، وبتوقّعاتنا عن جدّة ما تتناوله من موضوعات تعنينا، وبمقدار صلات هذه الموضوعات باهتماماتنا، وارتباطها براهن ما نعيشه، ونهتم بمتابعته، فضلاً عن تقديرنا لشهرة دور النشر، وحرصها على سمعتها، وجديّة ما صدر عنها من مطبوعات. ولهذا قرأنا كتباً جيدة برغم إخفاق مؤلفيها في اختيار عنوانات جاذبة. وعلينا ألا ننسى الإغراءات التي تقدمها عروض الكتب لما تشتمل عليه أو تتناوله، وتدفع القراء على الإقبال عليها.

 حبائل الجاذبية

ويرى الفنان كريم سعدون أنَّ في الكثير من الأحيان أنَّ بعض الناشرين والمؤلّفين يحرصون على جذب انتباه القارئ بما يضمن انتشار الكتاب وسرعة مبيعاته وفي ذلك سعي لنجاح تجاري فقط، ويرى أيضاً أنَّ أمر المبالغة هذا، أي البحث عن عنوان جميل وجذّاب، فيه بعض من إرث ماضي تصنيع الكتاب والرغبة في سرعة انتشاره، فهي مزية نجدها في المخطوطات التي تحتوي على عناوين تنمّي الفضول للسعي إلى قراءتها.

القارئ صنفان أولهما ساعٍ لاقتناء الكتاب مستبقاً التعرّف إلى محتواه لاستمتاعه بجاذبية العنوان من دون النظر إلى اسم المؤلف أو فهرس الكتاب، أمَّا الثاني فهو على العكس تماماً، متأنٍ يشرع في فحص الكتاب بدءاً من العنوان وتأويلاته واسم المؤلف أو المترجم واسم دار النشر، حيث تكمن فيهم المصداقية، ويتمعّن بالفهرس وتبويبه وأغلب الأحيان يقرأ بعض المداخل المهمة في متنه ليكون على قناعة مؤكّدة لضرورة شرائه ويضمن الحصول على ما يريده فعلاً. ولكنَّ الأمر لا يخلو في أحيان كثيرة من الوقوع في حبائل جاذبية العناوين فذلك شرٌّ لا يمكن التخلّص منه، فبعض الكتب تمتاز بتصميم جذّاب لأغلفتها وترتيب عناوينها وهذا يؤدّي إلى ما يمكن تسميته صدمة التلقّي الأولى فهي تحصل كثيراً إلَّا أنَّ الخروج منها يكمن في التنبّه إلى تدقيق فهارسها وقراءة بعض من متونها فكثيراً ما نجد حقيقةً أنَّ العنوان أكبر من الكتاب نفسه. ولكنَّ الأمر لا يمكن أن يكون مطلقاً في هذه الأيام، فكثير من الناشرين اليوم والمؤلفين والمترجمين يهمهم احترام القارئ النبيه، ففي كتبهم اختيار دقيق للعنوان لا يحتمل كثرة التأويل فيه مدركين أنَّ خداع العين يصدّه إعمال الفكر والتنبّه لذلك، فهم يرسّخون حضورهم في ذهن القارئ وهذا ربح لا يعوض.

استدراج القارئ

ويبدأ الدكتور محمد فاضل المشلب من التسويق التجاري، وهذا همّ يشغل دور النشر لأسباب عدّة منها كثرة الدور العربية التي في أساسها هي “دكاكين لطباعة الكتب”، هذه الدور تقبل طباعة أغلب ما يُعرض عليها من مؤلّفات، وكي يتمّ وضع هذه المؤلفات كمنتج في سوق الكتب محلياً وعربياً يتمّ استدراج القارئ عن طريق الجذب بالعنوان اللافت الذي يكون في نسبةٍ منه غير كاشف عن فكرة الكتاب، وأحياناً هذه العناوين خادعة، بمعنى أنّها لا تعكس ولو بمقدار بسيط فكرة الكتاب ومحتواه، لنأخذ مثلاً مصطلحات جاءت عنواناتٍ لكتب نقدية ودراسات أدبية مثل: جريمة، شوارع، أفعى، اعترافات، شبح وغيرها الكثير.

من غير أن نذكر ما يفعله العنوان على أغلفة الدراسات الفكرية والفلسفيّة ودواوين الشعر من هيمنة تخالف منطق المحتوى التأليفي لهذه المصنّفات، في حين أستدعي ما كان يصدره الشاعر الأميركي “والت ويتمان” إذ كان في كلّ مجموعة شعريّة جديدة له يضع لها العنوان نفسه (أوراق العشب) في تأكيد على مشروعٍ شعري كان يرسّخه لدى المتلقين في كلّ مجموعة تصدر.

وبالطبع هناك حاجة تظهر في صناعة العنوان هي اختصار جمل العنوان الأصلية لاسيّما في الرسائل الجامعية، فنتيجة لصرامة المسطرة الأكاديمية يتمّ وضع عنوان بجملة طويلة تشي بالممل، فيذهبُ الباحثُ أو مؤسسة النشر لتعديل العنوان وتقليل مسافته من الجمل، وهذا فيه ضرب من الذكاء للفت الانتباه.

فخاخ جميلة

من جانبه، لا يرى الدكتور ميثم هاشم طاهر ما يدعو إلى (إدانة) الكاتب أو الناشر، إن كان عنوان كتابهما أكبر من فصوله وتفاصيله، بل يجد ذلك دليلاً على ذكائهما الترويجي، فالأوّل يحرص على تقديم بضاعته بواجهة جميلة يستحسنها قارئه، بينما يحرص الآخر في مسعاه التسويقي إلى أن يقدّم منتجه بصورة جاذبة للمستهلك/ القارئ.

ولنا أن نتساءل وفقاً لما سلف: أيمكن لقارئ ما أن يشتري كتاباً فقط لجمال عنوانه؟ قد نجد العذر لقارئ يشتري كتاباً بعد قراءته لمحتوياته (الفهرست)، أو استناداً إلى مراجعات رصينة ومقالات نقديّة، أو ثقةً بدار نشر معيّنة، وقد صار بعضها (برانداً) جاذباً لجمهور القرّاء، أو وفقاً لاسم الكاتب، فأسماء الكتّاب المشهورين ضامن تسويقيّ أيضاً. لكن كيف نجد عذراً لمن يشتري كتاباً فقط لأنّ عنوانه قد جذبه؟ أجدني هنا متسامحاً ومقلّلاً من فداحة أن يكون ذلك صورة من صور الاحتيال غير الأخلاقي يتعرّض له القارئ لاسيما المهووس بالعنوانات الجاذبة. في الأقل لو طرحنا رأياً تبعاً لمذهب جماليّ متسامح مفاده أنَّ نحت عنوانٍ عظيم إبداعٌ بحدّ ذاته! ففي النهاية ليست كلّ الفخاخ قبيحة!

ملاحقة المضمر

وبحسب الكاتب حسن الزهراوي، فإنَّ الهدف في ما تعدّه مكائن الطباعة أو دور النشر والذي تسبقه تلك الرغبة المختلجة في صدر المؤلّف أن يجعل ما يكتبه مداراً للجذب والنشر سواء باختياره لغلاف الكتاب أو لعتبة العنوان، وهذا الأخير هو الأكثر جذباً وإثارةً لفضول القارئ لاسيَّما بما يتصف به إذ يمثّل اللحظة الأولى لانطلاق ذائقة شراء الكتاب وهنا يُترك المجال لما بعد الشراء هل توافق الحال بما في عتبة العنوان وما بعده، فعلى سبيل المثال لا الحصر كتاب (الدين والظمأ الأنطولوجي) للدكتور عبد الجبار الرفاعي بين غموض ورمزية العنوان وتفكيكه فيما بعد قراءة مضامين الكتاب ستجد المتعة والإثارة مرّةً تكون لقراءة فلسفة العنوان وملاحقة ما يضمره والأخرى في الالتذاذ بما تضمّنه هذا الكتاب من أطروحات معرفية وفلسفية وصولاً إلى محتويات الكتاب. بينما الأمر مختلف مع من يتقصّد تسويق بضاعته بعنوان إشكالي يتصدّر ما يطبعه من نتاج أدبي أو معرفي اجتماعي فلا يتضح من مضمون ما كتبه سوى استثارة النظر… فما معنى أن يقوم (شاعر) بصياغة عنوان لديوانه وفيه من الاستفزاز والإثارة الشيء الكبير، بينما لا تجد أيّ إشارة أو حتّى نسقاً مضمراً يمكن أن يُستشف من موضوع قصائد الديوان، وهنا يكمن اللعب على استمالة القارئ الذي اقتنى الديوان الشعري أو الرواية أو أيّ كتاب آخر لمجرّد العنوان المثير لينزوي بعد ذلك في زاوية من المكتبة حيث خيبة القارئ والمؤلف معاً.

 رهان التسويق

وينهي الروائي صلاح عيال حديثنا مبيناً أنَّ عنوان الكتاب يعدُّ السلطة الأولى الجاذبة للقارئ أو الطاردة له، فضلاً عن الغلاف واسم الكاتب ودور النشر المتباينة في انتخاب الكاتب ونوع الإصدار والتصميمات الداخلية ولوحة الغلاف وتنفيذه.

هذه العلامات كلّها يتقاسمها الكاتب والناشر لتسويق الكتاب إلى القارئ العادي الذي يقع في هذه المصائد وقد ينجو المتخصّص لدرايته بالمطبوع والاسم ونوع الكتاب وتنفيذه، ولأنَّ التسويق مهمّة دار النشر يسعى الناشر للتحاور مع الكاتب وتقديم المعالجات لنحت العنوان الذي يمسك القارئ. و”شخصياً تدخّل محرّر دار النشر في تغيير عنوان روايتي، وحدث ذلك مع كتّاب آخرين”.

مضيفاً يبقى الكتاب رهان التسويق وما يطلبه القارئ ومعارض الكتب المختلفة بين بلد وآخر تجبر الناشر أن يقع في التباسات المتن التي لا تتوافق مع العنوان، وكم أتمنى أن يتوافق العنوان مع ثقل المادة، هذا ما تسعى له دور النشر الرصينة، وإن تأثّرت هذه الدور كثيراً “بدكاكين” ضعيفة ودخيلة على هذا الرافد المهم. ولقد شهدنا هذه السنوات من لا علاقة لها بالكتاب ولا يهمها غير الربح المادي، ممَّا أثّر في انتخاب الكتاب وإخراجه وهبوط الكتب الشبيهة بملازم الدراسة، فلا عناوين ولا أغلفة ولا متون. ومع ذلك، نجد بعض العنوانات الجاذبة أكبر من الكتاب إذا ما انتبهت إلى فهرسته، وقد يتعدى الأمر إلى كتب عالمية وعربية فليس كلّ ما يترجم أو وافد هو مقبول القراءة.