عفاف مطر
“ ما يعتبر سبباً وجيهاً للحياة هو أيضاً سبباً وجيهاً للموت “ لا توجد عبارة تعبر عن فلسفة العبث مثل هذه العبارة. ما هو العبث؟ حسب البير كامو العبث هو الشك في معنى الحياة وفي كل شيء. يقول البير: ” أنا لا أبغض العالم الذي أعيش فيه ولكني أشعر أني متضامناً مع الذي يتعذبون فيه، مهمتي ليست تغيير العالم فأنا لم أعطَ ما يسمح لي ببلوغ هذه الغاية ولكني أحاول أن أدافع عن بعض القيم التي بدونها تصبح الحياة غير جديرة بأن نحياها ويصبح الإنسان غير جدير بالاحترام “ العبثية لاتكون بالتبني أنت لاتستطيع أن تكون عبثياً لأنك تريد أن تكون عبثياً، بل العبثية هي إحساس ينبع من التجربة الحياتية. البير كامو في إحدى المرات كان يجلس في مقهى ورأى على الجانب الأخر رجلاً يتحدث بالهاتف ولم يتمكن البير من سماعه لبعد المسافة، فرأى البير أن هذا الرجل يتحدث لقطعة من البلاستيك، ومن هنا تجلى العبث لألبير وكانت هذه الحادثة سبباً لكتابته ( أسطورة سيزيف ) إضافة إلى تجربته الشخصية في اقترابه من الموت حين أُصيب بالسل وكان يبقى في البيت شهوراً طويلة لا يفارق البيت، الموت أو مجرد الاقتراب منه كفيلٌ في إيصالك إلى فكرة وفلسفة العبث. شعر البير بحتمية الموت وكان هذا سبباً كافياً لاعتقاده أن كل شيء لا قيمة له الدين والفكر والفلسفة الزواج والإنجاب ... الخ كلها ليست ذا قيمة مادامت النهاية واحدة. قد يكون غريباً أن العبث والوجودية يجتمعان في الجوهر، وهو فكرة حتمية الموت؛ لكن في الوقت ذاته يختلفان في التعامل مع هذه الحتمية إذ أن الوجودية ترى أن حتمية الموت هو نقطة بداية الحياة بينما يرى البير والعبثيون بصورة عامة أن الموت هو بداية العبث لا فائدة ترتجى من أي فعل إنساني إيجابيّاً كان أم سلبيّاً لأن كلاهما سينتهي نهاية واحدة وحتمية وهي الموت، ترى العبثية أن الوجود بلا جدوى. البير كامو يرى أننا أمام أربع خيارات 1- الهروب 2- الإنكار 3- المشاركة 4- المواجهة. البير كامو سيطرت عليه فكرة أن الموت يأتيك بأي لحظة إذن لا جدوى من عقلنة أو تفسير الحياة أو الموت. وتبنى كامو فكرة إرادة الموت أي الاستعداد له، فالعبث بالنسبة اليه فكرة أو صحوة أو لحظة تغير إدراك الإنسان، فكان خياره الخيار الرابع المواجهة، مواجهة عالم لا معنى له، يقول “ الإحساس بالعبث هو العالم الذي يحتضر، أما إرادة العبث هو عالم جديد” العالم الذي يحتضر برأي كامو هو أن تعيش الحياة كما هي أو العالم الذي طرحته أغلب الأديان وفكرة الحياة الأخرى، حياة ما بعد الموت، وهذا العالم طرحه كامو بعيداً، أما العالم الجديد فهو الغاية، وهي إدراك العبث، أي أن الحياة عبث ويقبل بها ويتعايش معها. تجلت فكرة أو فلسفة العبث في مجمل أعمال كامو أذكر منها رواية الغريب ومسرحية كاليجولا واسطورة سيزيف وأطلق على أعماله هذه بالذات عبثياتي الثلاث. في مسيرته الأدبية وظف مؤلفاته لتوضيح الإحساس والإدراك بالعبث. نرى في أعماله فريق من الناس أدرك عبثية الحياة واستسلم لها، وفريق تجاهل هذه العبثية وفكرة حتمية الموت وقرر أن يعيش الحياة بكل مافيها وكأنه لن يموت. مسرحية كاليجولا بدأ بكتابتها عام 1937 وانتهى منها 1939 وطوال هذه الفترة كانت فرنسا تحت الاحتلال الألماني، ولم تعرض إلا بعد تحرير فرنسا من النازيين عام 1944. المسرحية باختصار تخبر بقصة إمبراطور روماني عبثي يجبر شعبه على العبثية بالإكراه وليس بقناعة منهم، فبالرغم من حياتهم البائسة إلا أنهم يرغبون في أن يعيشوها ببساطة لكن كاليجولا كان يقتل الناس بدون أي مبرر، فيضطرون إلى نفاق هذا الإمبراطور الديكتاتور والموافقة على أفكاره العبثية التي لا تتوافق مع قناعاتهم ورغباتهم، فلا يستطيع القارئ التعاطف مع الإمبراطور الظالم ولا مع الشعب الجبان والمنافق. كاليجولا كان يصدر قرارات عبثية بالاغتصاب والقتل والتعذيب وإذا ما أخطأ في حكمه على أحدهم بالإعدام كان يهمس لوزيره أنه عاجلاً أم أجلاً سيموت، وربما هذا يفسر جانب سايكلوجي للحكام الديكتاتورين في التاريخ، فهم يرون أن الشعب سيموت سيموت ولهذا لا يشعرون بالذنب من قتل الأبرياء. كان كاليجولا يرى أن الألهة لا تكترث بألم الشعوب كما هو تماماً لا يكترث ووضع نفسه في مكان الألهة بل وتحداها أن تهلكه لتنقذ شعبه. في المسرحية يسأل كامو “ من هو الثائر؟ ويجيب: الثائر هو الذي يقول لا” والثائر في المسرحية هو شيريا. شيريا هو تمثيل لفكرة العبث عند كاليجولا لكن بعيداً عن العنف بل أن تؤطر ضمن الأخلاق. كاليجولا هو رمز لهتلر في الواقع. البير كامو قدم أشكالاً عديدة للعبث في هذه المسرحية فهناك الفكرة العنيفة وجسدها كاليجولا وفكرة العبث الأخلاقية التي جسدها شيريا، إضافة إلى أشكال أخرى جسدتها بعض الشخصيات في المسرحية، ولهذا اتهم الكثير من النقاد كامو بأنه تساهل مع هتلر حين ساوى عبثية كاليجولا بعبثية شيريا. يقول كامو :”السبيل الوحيد للتعامل مع عالم غير حر هو أن تكون حراً تماماً، كي يصبح وجودك لوحده عملاً ثورياً في حد ذاته”.