هاشم تايه يتبع الأثر

ثقافة 2023/11/09
...

  طالب عبد العزيز

تأخذ سيرة الرَّسام، وأستاذ العربيّة، والخطاط، والشاعر، والقاص، والصحفي، والإنسان الكبير هاشم تايه من سيرة نجيب المانع الكثير، بما عرف عنهما من تعدد في المواهب، والاهتمامات، والإصرار الغريب على ترك أثر في كل مفصل، أدبيٍّ، أو فنيٍّ يذهبان إليه. في سبعينيات القرن الماضي عرفته رساماً، صممَّ أول كتاب للشاعر عبد الكريم كاصد (الحقائب) وعرفه الوسط التربوي كواحد من أفاضل مدرّسي العربية، وحين عملنا في الصحافة معاً كان أعلمنا بها، وأخلصَنا لها، ولما أصدر كتابه الشعري (عربة النهار) فوجئنا بشاعر مقتدرٍ، عابر للأجيال، ويوم أصدر كتابه القصصي (حياة هشة) أضاف للقصة القصيرة معنى آخر. على هذه وتلك وجدت هاشم تايه في كتابه السيري- القصصي (العين والأثر) الصادر عن دار غاف، بدبي، عام 2023.
 في مقدمته لكتابه يقول هاشم:»رسم رسامون بحسٍّ سردي، وكتب قاصّونَ بنزوع تصويري، وظهر الرسم في القصة والقصة في الرسم»، وهو بهذه يضعنا على عتبة قرائية، ستمهد لنا الطريق إلى قول ما وجدناه فيه، ذلك لأنَّ صنعة الرَّسام (هاشم) تتقدمنا في كل ما نقرأه له، فقد عرفناه فناناً تشكيلياً، في أكثر من معرض شخصيٍّ، ومشترك له، وهو على خلاف ما نعرفه عنه من عناية وصرامة لغوية نجده مهشِّماً لأشكالِه في الرسم، ومحطماً للإنسان فيها، ضمن فلسفة عنيَ بها، مفادها أنَّ «الإنسان نفايةٌ مؤولة». لهذا كان الفراغ والسكون مادتي الرسم والكتابة عند هاشم، وهذا ما نعثر عليه في قصة (برافو أيتها النِّمال) والتي يروي فيها جزءًا من سيرته، مسافراً مع صديق له، بين مدينتي تازربو والكفرة، بليبيا، محاصرْين في بريّة ساكنة من الرمل، غير محدودة بنهايات، يملكان فيها الوقت كله، لفعل كلِّ شيء، لكنه يكتفي بتعقّب مسير قافلة من النمال، هكذا، في فعل من أفعال العطالة والفراغ، يوقفنا فيه على كثير مما أراد أن يرسمه، عندما استعصت عليه أداته في الرسم، فاضطر إلى كتابتها. ننظر قوله:» وأنا مكفَّنٌ ببطانيتين» ترى كيف سيرسم هاشم نفسه مكفناً ببطانيتين، لو حضرته أداة الرسم، وكذلك في قوله «جالسيْن على حجر، في ضوء شحيح، تطوّقه عتمةُ الصحراء» وهناك عشرات الصور والرسومات التي جاءته مكتوبةً.    
وأجدني متقرباً من عوالمه في كتابه هذا بتذكر سارماغو في رواية (دليل الرسم والكتابة) فهما يشتركان هنا، حيث يدوّن البطل بعضاً من سيرته ورحلاته إلى المدن المُتحفية (ميلانو وفينيسيا واسبانيا) في الرواية التي ناهزت صفحاتها الأربعمائة صفحة مكّنت سارماغو من البوح بشيٍء من فلسفته، وانتمائه الايديولوجي، كذلك فعل هاشم مدوناً شيئاً من ذلك، وإن كان  الرسمُ لا يتضمنُ الغموضَ، لكنه يتضمَّن غموضاً آخرَ، يدفعه للكتابة، فسارماغو يقول: «غموض الكتابة وصعوبتها في ذات الوقت يدفعني إلى الرسم». لم تكن المدن التي عبرها هاشم في فصل الكتاب الأول (من الدفتر الدوّار) مُتحفية، هي متاهات، وبلا ملامح، لكنه أوقفنا فيها على جانب من سيرته، شبه الكافكوية، وتنقلاته الاضطرارية في القفر البعيد ذاك، عندما تحوّل هو ورفيق أثناء صعودهما السيارة، في رحلته تلك إلى نملتين:»فتح السائقُ بابها فصعدتْ نملتان».
لا يُصنَّفُ كتابُ هاشم (العين والاثر) ككتاب قصصي- سيري، على الرغم من مشيئة الدار لذلك، فهاشم يستهويه الشعر مثلما يستهوية الرسم والقصُّ، لهذا، نجده مطوّقاً بالحنين اليه، مستعمله في جمل كثيرة، بما فيها النصوص التي كتبت بنيّة القصِّ والسيرة، مثل قصته (برقيّة الجِّمال) التي يصعِّد من الشعر فيها، فيصف صراخ الجِّمال التي أجبرت على صعود الشاحنة (شظايا لحم دامية تنقذف، قبل أن تذوب في الفضاء، ذلك هو صراخ الجمل، لو أمكن رؤية صراخه بالعين» وعلى وقع الحنين هذا أفرد للشعر مساحة غير قليلة في صفحات الكتاب الاخيرة. ففي (قصيدة من برونز) مثلاً يقف متأملاً تمثال السيابَ الشاعر، محاوراً إياه، ثم ليساله:» اراك تصوّر نفسك مع تمثالك»، ليردَّ عليه: الصورةُ ستعينني على كتابة قصيدة عن تمثالي».. إنَّه، أنا، لكنْ بقصيدة من البرونز».  
 وفي استعادة لرواية ساراماغو يكتب هاشم قصة بعنوان (الموت في الرسم) مستحضرا سيرة رسّام اخر اسمه صلاح مهدي، توفي قبل سنوات، الفنان الذي دأب على رسم وجوه معظم شعراء وكتاب وفناني المدينة: «سوف يستعصي عليهم أن يستلوا ملامح وجوههم من بين أكوام كلماتهم». دائماً، هناك جزءٌ من جسد الفنان ينام فيما يكتب ويرسم الجزء الآخر منه. في القصة هذه يتعقب هاشمٌ دأب وجهد الرسام، الذي ظلَّ يطلب صور وجوه أصحابها، ليفرغها في بورتريت ملوّن، لم يلبث أن يضعها تحت زجاجة، في إطار مزخرف، ثم يحملها إلى المقهى، ليعلقها على جداره.يكتب سارماغو:»إن مشكلتي ليست الغياب، بل في نوع من الحضور».   في الكتاب الذي لم يبلغ عدد صفحاته مئةً نكتشف جانباً من حياة هاشم السريّة، هذا المتحفظُ الحييُّ المقتصدُ بلغته، والمفجوع بصمته، سيطلعنا على حسيّة مقموعة في قصته (الأدمغة الصغيرة) فالغزالة التي تندسُّ بين فخذي صيّاد الصقور، في الليل النائي ذاك، هي امرأة خياله المفقودة، أنثاه المؤولة في البرية الكبيرة، التي جاءته لتملأ عليه غربته والقطيعة الطويلة مع الجسد المتمِمّ. وعلى الحال هذه سنجده في قصته التي حملت عنوان الكتاب، مع الرجل المريض وزوجته الستينية.