تفصيلٌ ثانوي

الصفحة الاخيرة 2023/11/09
...

د. طه جزاع

الرواية كلها تتعلق بتفصيلٍ ثانوي حدث في صحراء النقب يوم 13 آب/ اغسطس عام 1949، وضحيته فتاة عربيَّة تعرضت للاغتصاب والقتل بالرصاص على أيدي قائد كتيبة إسرائيليَّة وجنوده، لكنَّ التهمة، أوالأكذوبة السخيفة القديمة الجديدة، تهمة "العداء للسامية"أُلصقت بهذه الرواية وكاتبتها الفلسطينيَّة المقيمة في برلين عَدَنيَّة شِبْلي، لتقرر إدارة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب - الذي يعدُّ واحداً من أكبر معارض الكتب في العالم، إلغاء حفل تكريمها بجائزة أدبيَّة منحتها إياها الجمعيَّة الأدبيَّة الألمانيَّة.
حدث ذلك والحرب البشعة على غزة مستمرة منذ أسبوعين قبل افتتاح دورة المعرض للعام الحالي من 18 إلى 22 تشرين الأول/ اكتوبر الفائت، بعد أنْ انساقَ منظموه مع موجة تبني الخطاب الصهيوني الذي يسوغ حرب الإبادة الجماعيَّة ضد سكان غزة المدنيين، وسرعان ما أعلنوا تضامنهم المطلق مع إسرائيل، وعزمهم "جعل الأصوات اليهوديَّة والإسرائيليَّة مرئيَّة بشكلٍ خاصٍ في معرض فرانكفورت للكتاب"، الأمر الذي حدا باتحاد الناشرين العرب إلى مقاطعة هذه الدورة بسبب ازدواجيَّة المعايير، والزج بالثقافة في المجال السياسي، بينما أعلن مئات الكتاب والأدباء المعروفين عالمياً تضامنهم مع شِبْلي، ومنهم الحاصلون على جائزة نوبل في الآداب أمثال الروائيَّة الفرنسيَّة آني إرنو، والتنزاني من أصول عربيَّة عبد الرزاق قرنح، والبولنديَّة أولغا توكارتشوك.
"تفصيل ثانوي" رواية لم تهتم بالأحداث الكبرى، بل قل الجرائم الكبرى التي رافقت وأعقبت نكبة العرب في فلسطين، وإعلان تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، إنما تكمنُ فرادتها في القدرة على توظيف حدثٍ شخصي مأساوي تعرضت له فتاة عربيَّة على أيدي الصهاينة، رمزاً لاغتصاب الأرض والإنسان، وتجسيداً للسلوك الوحشي الحيواني الذي اتسم به المحتلون منذ تدنيسهم لأرض فلسطين، إذ تبدأ الرواية حين "يخيّم قائدُ كتيبة عسكريّة مع جنوده في بقعة من صحراء النقب، يُشتبه في أنها ممرُّ يسلكه المتسلّلون العرب. بعد أكثر من خمسة عقود، تطلق فتاة موظفةٌ فلسطينيّةٌ في رحلة صوب النقب ساعيةً إلى كشف ملابسات حادثة جرت في ذلك المعسكر، مستعينةً بتفاصيل ثانويّة شتّى".
موقف معرض فرانكفورت للكتاب ضدَّ الكاتبة الفلسطينية عَدَنيَّة شِبلْي، لم يشذ عن موقف الحكومات الغربيَّة المنحاز دوماً للكيان الصهيوني، على الرغم من المشاهد اليوميَّة لمجازره الدمويَّة التي أبادت أسراً بأكملها وشطبتها من الحياة، ودمرت أحياءً سكنيَّة عن بكرة أبيها، وغيرت اتجاهات الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة الأميركيَّة بعد أنْ انكشفت الحقائق بالصوت والصورة والنقل المباشر. لكنَّ خرافة "العداء للسامية" بقيت تعششُ في عقول صناع القرار السياسي، وتمنع عنهم أبصار تفاصيل ثانويَّة مأساويَّة، تكررت آلاف المرات في مشاهد الحرب على غزة، وأمام أنظار العالم "المتحضر" برمته.