مسألة فلسطين

ثقافة 2023/11/12
...

 د. نادية هناوي

ترجمت أغلب مؤلفات ادوارد سعيد، وبعض منها أعيدت ترجمتها مرات عدة، نظرا لأهمية وجدة ما فيها من رؤى وأفكار، ولقد أخذ كتاب (الاستشراق) حصة الأسد من هذه الترجمات في حين بقيت هناك كتب لم تنل حظها من الترجمة، ومنها كتاب (مسألة فلسطين: محاججة اقناعية من أجل الهوية والعدالة)(1)  وألفه احتجاجا على اتفاقية كامب ديفيد وندد بها، بسبب غياب الفلسطينيين عنها والذين لهم وحدهم الحق في تقرير مصيرهم. وصدر الكتاب بطبعته الأولى باللغة الانجليزية في نيويورك عام 1980 وأعيد نشره مع مقدمة وخاتمة جديدة سنة 1992 ويتضمن الكتاب أربعة فصول، تناولت موضوعات سياسيَّة وتاريخيّة لها صلة بالشأن الفلسطينيّ والقضيَّة الفلسطينيَّة والصهيونيّة وتقرير المصير الفلسطيني واتفاقية كامب ديفيد وما بعدها. ولأننا وجدنا أن كثيرا من تحليلات ادوارد سعيد في هذا الكتاب تنطبق على حالنا العربي وبخاصة الفلسطيني، ارتأينا عرضه على القراء. وفي أدناه ترجمة مقدمة الكتاب بطبعته الأولى وفيها عَرَض ادوارد سعيد أغراضه من الكتاب وأهم موضوعاته ورؤيته العامة للصراع العربي الصهيوني.

(على الرغم من أن الجزء الأعظم من هذا الكتاب ألف في عام 1977 وأوائل عام 1978 فإن إطاره المرجعي لا يقتصر بأي حال من الأحوال على تلك المدة المحددة جدا من تاريخ الشرق الأدنى الحديث. 

وهدفي أن أعرض أمام القارئ الأمريكي تمثيلا للقضيّة الفلسطينيَّة وهي غير معروفة على نطاق واسع ولا تحظى بالتقدير في الغرب حتى الآن.

إذ لا حديث كثيرا عن الفلسطينيين والمشكلة الفلسطينيّة. 

واعتمدتُ بشكل أساس على ما اعتقده يمثل بحق التجربة الفلسطينية الواعية بذاتها كمقاصد وأغراض منذ أن وصلت أول موجة من المستعمرين الصهاينة إلى شواطئ فلسطين في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر.

ولقد أخذ التاريخ الفلسطيني - من بعد هذا التاريخ - مسارا خاصا به ومختلفا تماما عن التاريخ العربي. وهناك بطبيعة الحال العديد من الصلات في هذا القرن بين الفلسطينيين والعرب الآخرين ولكن السمة المميزة للتاريخ الفلسطيني هي مواجهته الوطنية مع الصهاينة مواجهة فريدة من نوعها في المنطقة. 

وهذا التفرد هو الذي وجه هدفي وأدائي في هذا الكتاب، وبوصفي فلسطينيا حاولتُ دائما أن أكون على بينة من نقاط ضعفنا وإخفاقاتنا. ووفقا لبعض المقاييس ربما نكون شعبا غير استثنائي بتاريخنا الوطني ولكننا لم نتمكن من إثارة اهتمام الغرب كثيرا بعدالة قضيتنا . ومع ذلك فإنني اعتقد أننا بدأنا في بناء هوية سياسية وبإرادة خاصة بنا، طورناها بمرونة ملحوظة ونضال وطني فحصلنا على دعم جميع شعوب العالم الثالث. 

وعلى الرغم من أننا مشتتون ومقسمون جغرافيا انطلاقا من حقيقة أننا لا نملك أرضنا، فإننا شعب متحد إلى حد كبير. وعبّرنا عن تماسكنا بحماس إيجابي من خلال مقاومتنا ومواجهتنا الخاصة لعمليات الاستبعاد والاستلاب والقمع. وهذا الوضع الكامل من المواجهة ومعايشة التفاصيل هو ما حاولت وصفه في هذا الكتاب. وبالنسبة إلى العديد من قرائي، فإن طرح القضية الفلسطينيّة يستدعي على الفور فكرة (الإرهاب). ويرجع ذلك جزئيا إلى هذا الاقتران البغيض الذي جعلني لا أنفق الكثير من الوقت في الحديث عن الإرهاب في هذا الكتاب. والقيام بذلك كان سيعني نقاشا دفاعيا اما بالقول إن إرهابنا مبرر أو من موقع أنه موقف لا أساس له من الصحة لأن لا شيء اسمه إرهاب فلسطينيّ. إن الحقائق أكثر تعقيدا إلى حد كبير وبعضها في الأقل يخضع للرؤية العددية، فأعداد الجثث والممتلكات المدمرة يؤكد أنه لا يوجد على الإطلاق ما يمكن مقارنته بين ما فعلته الصهيونية بالفلسطينيين، وما فعله الفلسطينيون انتقاما من الصهاينة. وما الهجوم الإسرائيلي شبه المستمر على مخيمات اللاجئين المدنيين الفلسطينيين في لبنان والأردن على مدى السنوات العشرين الماضية سوى مؤشر واحد على الحال غير المتكافئ على الإطلاق في التدمير. والأمر الأسوأ في رأيي هو نفاق hypocrisy الصحافة الغربية والخطاب الثقافي الغربي وبالتأكيد الصهيوني الليبرالي. فهل هناك شيء أقل بشاعة من خطاب التعصب الإرهابي الصهيوني في نقله تقارير عن إرهاب عربي يمارس ضد المدنيين الإسرائيليين في حين يكون هذا الخطاب حياديا وهو يصف الهجمات الإسرائيلية على المواقع الفلسطينية في جنوب لبنان ولا يجرؤ على تسميتها بـ”مخيمات اللاجئين الفلسطينيين”. ومنذ 1967 والصحافة الغربية ووسائل الإعلام لا تثيرها ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة بقدر ما يثيرها انفجار قنبلة في سوق بالقدس. ويجب أن أشير هنا إلى أنه لا توجد صحيفة أمريكية واحدة تنشر المقابلة الآتية التي أجريت أواخر ديسمبر 1978 مع الجنرال غور Gur قائد أركان الجيش الإسرائيلي: 

*/ هل صحيح إثناء الغزو الإسرائيلي للبنان في مارس 1978 أنكم قصفتم تجمعات للناس دون تمييز ؟ 

-/ أنا لست من هؤلاء الأشخاص الذين لديهم ذاكرة انتقائية، أ تعتقد أنني أتظاهر بعدم معرفة ما أفعله طوال هذه السنوات ؟ ماذا فعلنا على طول قناة السويس وأين يعيش مليون نصف لاجئ بعد قصفنا الإسماعيلية والعريش وبور سعيد وبور فؤاد ؟. 

ومنذ متى أصبح مليون ونصف لاجئ من سكان جنوب لبنان مقدسين إلى هذا الحد؟ لقد كانوا يعرفون جيدا ما كان الإرهابيون يفعلونه بعد مذبحة افيفيم. أنا قصفت أربع قرى في جنوب لبنان من دون تمييز.

*/ دون تمييز المدنيين وغير المدنيين؟ 

-/ ما التمييز؟ ماذا فعل سكان مدينة اربد في شمال الأردن ومعظمهم من الفلسطينيين فاستحقوا أن نقصفهم؟ 

*/ لكن البيانات العسكرية كانت تتحدث دائما عن رد بإطلاق النار وعن توجيه ضربات مضادة ضد أهداف إرهابية ؟

-/ رجاء بجدية، أ لم تعلم أن وادي الاردن بأكمله قد أُفرغ من سكانه نتيجة حرب الاستنزاف؟ 

*/ إذن أنت تطالب بمعاقبة جماعية؟

-/ بالطبع وليس لدي أدنى شك حول ذلك عندما أعطيت يانوش ( الاسم المصغر لقائد الجبهة الشمالية والمسؤول عن العملية اللبنانية) الإذن باستخدام الطيران والمدفعية والدبابات في الغزو كنت أعرف بالضبط ما أنا فاعل. لقد مضى الآن ثلاثون عاما منذ ذلك الوقت نقاتل ضد المدنيين العرب الذين يسكنون القرى والبلدات وفي كل مرة نفعل ذلك والسؤال نفسه يطرح هل يجب علينا أولا أن نضرب المدنيين؟) 

أن شيئا واحدا يجسد الإرهاب هو الخلل في تصويره والخلل في ارتكابه، ويمكن للمرء أن يتذكر على سبيل المثال أنه في كل محاولة يتم فيها إطلاق سراح الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية كانت القوات الإسرائيلية دائما هي التي تبادر بإطلاق النار متسببة ـ عن عمد ـ بحمام من الدم.

لكن حتى مجرد الاستشهاد بالأرقام وتقديم الإيضاحات ليست كافية، لأن سجل العداء بين اليهود والعرب، بين الفلسطينيين واليهود الصهاينة، بين الفلسطينيين وبقية البشر أو هكذا يبدو، بين اليهود والغرب هو سجل عداء تقشعر له الأبدان. أنا كفلسطيني مستاء واستنكر الطرق الإرهابية المروعة بكل أصدائها وتفاصيلها المرفوضة أخلاقيا والتي يعبر عنها ببساطة وأريحية في كثير من الأحيان تحت باب (الإرهاب الفلسطيني).

ومع ذلك باعتباري شخصا تأثرت بالقضيّة بشتى الطرق يجب أن أقول أيضا وأنا أتحدث الآن كواحد من الفلسطينيين لقد شعرت بالرعب من اختطاف الطائرات والمهمات الانتحارية والاغتيالات وتفجير المدارس والفنادق التي قام بها رجال ونساء فلسطينيون دُفعوا إلى القيام بهذه الأشياء دفعا. وبما إنني لا أدعي أني اكتب كمراقب منفصل لكني اعتقد أنه بدلا من محاولة التعامل مع الإرهاب بالمثل وبشكل مباشر فأنني سأفعل ما هو أفضل عندما أحاول أن أنقل إلى قرائي بعض صور ومشاعر القصّة الفلسطينيّة.

وإذا كانت هذه القصة لا تستطيع التخفيف من المآسي التراجيدية وحالات التعاسة، فإنها في الأقل ستقدم ما كان منسيا منذ فترة طويلة أمام قرائي وهو واقع الصدمة الجماعية التي يعاني منها كل فرد فلسطيني. ومن سمات الشعوب غير الأوروبية أنها ليست غنية بالوثائق والتواريخ والسير الذاتية والسجلات وما شابه ذلك. وهذا ما ينطبق على الفلسطينيين إذ لا يوجد نص رسمي رئيس حول التاريخ الفلسطيني. ولم أحاول سد هذا النقص لأسباب واضحة لكن ما حاولت القيام به هو إظهار بأن التجربة الفلسطينية هي جزء مهم وملموس من التاريخ، وهو الجزء الذي تجاهله الصهاينة إلى حد كبير وتمنوا لو لم يكن موجودا أبدا. 

لقد حاولت أن أبين أن المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين الذين عاشوا في فلسطين لمئات السنين حتى طردوا منها في 1948 كانوا ضحايا تعساء للحركة الصهيونية التي كان هدفها إنهاء إيذاء اليهود من قبل أوروبا المسيحية لكن الصهيونية نجحت بشكل مثير للإعجاب في جلب اليهود إلى فلسطين وبناء أمة لهم. ولم يهتم العالم بما سببه هذا المشروع من خسارة وتشتت وكارثة للسكان الفلسطينيين الأصليين. فبقيت النظرة مزدوجة إلى ذاك النجاح وهذه الكارثة. وهو ما صورته حنة ارندت على هذا النحو (بعد الحرب العالمية الثانية تبين أن المسألة اليهودية التي كانت تعتبر المسألة الوحيدة غير القابلة للحل تم حلها بالفعل أي عن طريق استعمار الأراضي واحتلالها بالقوة لكن هذا لم يحل مشكلة الأقليات ولا مشكلة عديمي الجنسية بل على العكس من ذلك وكما هو الحال في كل الأحداث الأخرى التي شهدها قرننا، فان حل المسألة اليهودية نتجت عنه فئة أخرى من اللاجئين وهم العرب مما أدى إلى زيادة عدد عديمي الجنسية إلى نحو 700 او 800 ألف شخص). 

وكما قلت فإن هذا ما يريد الكتاب تأكيده وهو أن الاحتفاء بإسرائيل وتاريخها مستمر دون انقطاع في حين لا يزال الواقع الفلسطيني يعيش التحدي ولا يتنازل عن وجوده، ولكن مؤخرا وفجأة أصبحت المسألة الفلسطينية تبحث لها عن إجابة. والرأي العام العالمي يطالب بحلول لمأزق الشرق الأدنى ولكن من المؤسف أن فرصة إجراء مناقشة كافية الآن او التوصل إلى حل مقنع أصبحت ضئيلة. 

وكان من شروط المناقشة أن يتعاملوا مع الفلسطينيين كلاجئين أو متطرفين أو إرهابيين واحتكرت مجموعة كبيرة 

من خبراء الشرق الأوسط تلك المناقشة تحت ستار المعرفة وفي المقام الأول العلوم الاجتماعية وبالعبارات الإيديولوجية. والأهم من ذلك كما اعتقد هو الموقف الثقافي الراسخ تجاه الفلسطينيين والمستمد من الأحكام الغربية المسبقة والقديمة حول الإسلام والعرب والشرق.

ومن هذا الموقف استمدت الصهيونية نظرتها للفلسطينيين فجردتنا من إنسانيتنا وحولتنا إلى حالة إزعاج بالكاد يمكن التسامح معها. وربما يكون من المبالغ القول إن دراسات العلوم السياسية في الشرق الأوسط والمؤسسات المعنية بالشأن الفلسطيني تواصل السير على نهج تقليدي مما أضفى الشرعية على الصهيونية في استلاب الحق الفلسطيني. وليس لديهم سوى القليل جدا للمساهمة في فهم الوضع الحقيقي في الشرق الأوسط الحديث. وكل الذي تم إنتاجه منذ الحرب العالمية الثانية هو أن لا يأخذ أي شخص مكانا قويا في المنطقة. وهذا ما ينطبق بشكل واضح على الأحداث الأخيرة في إيران وكذلك الحرب الأهلية في لبنان والمقاومة الفلسطينية والأداء العربي خلال حرب 1973.

من المؤكد أنني لا أقصد أن يكون هذا الكتاب جدالا ضد ما يسمى حق النزعة الايديولوجية في العلوم الاجتماعية أي التظاهر بالموضوعية العلمية فمنذ إعلان الحرب الباردة التي اعتزم بوعي تجنب مخاطرها وحسابات الواقع السياسي الذي يركز على التنافس بين القوى العظمى ويتجاهل الحركات الشعبية لكنه يشيد بمجموعة الأنظمة العميلة القمعية ويرفض أي شيء تاريخي يمكن له بسهولة أن يكون فاعلا بوجه الغايات والمناهج الامبريالية أو البراغماتية أو العقلانية. 

لقد تم إلقاء اللوم والقصور بسبب خسارتنا في إيران وفشلنا في التنبؤ بانبعاث الإسلام Resurgence of Islam من دون السماح بفحص المقدمات والمفاهيم. 

في الواقع يؤكد صانعو السياسة الذين لهم دور كبير في صنع القرارات أهمية ألا تتعرض السياسة الخارجية للولايات المتحدة للخطر بسبب ما تعتبره أعين غير الخبراء (كعيني مثلا) خاسرا بشكل واضح. حتى وأنا أكتب هذه السطور يبدو أن الأسباب التاريخية والعيوب الخطيرة في كامب ديفيد تثبت وجهة نظري ومع ذلك حتى عام 1976 لا اعتقد أنه من الخطأ القول إن الفلسطينيين متفقون على انتقاصهم وبالتالي عدم أهميتهم كما فسرها الصهاينة والخبراء ثم اكتشفنا أنفسنا واكتشفنا العالم. إني أحاول أن أصف ليلنا وصحوتنا البطيئة دون إهمال وضع حياتنا على الأرض على الصعيد الجغرافي والصعيد السياسي العالمي.كانت الصهيونية بالنسبة لنا تعني ما تعنيه لليهود وان كان بشكل مختلف. وما نحتاج أن نقوله للعالم هو ماذا تعني لنا أشياء محددة وآثار حية. 

لقد وصفت كتابي بأنه مقال سياسي كونه يحاول أن يضع قضيتنا أمام القارئ الأمريكي لا كشيء منته منه بل كشيء يجب التفكير فيه والتعامل معه سياسيا. لقد كنا لفترة من التاريخ خارج التاريخ وبالتأكيد خارج المناقشات. ويحاول هذا الكتاب بطريقته المتواضعة أن يجعل قضية فلسطين موضوعا للنقاش والتفاهم السياسي وآمل أن يكتشف القارئ بسرعة ما يقترحه هذا الكتاب لا كوجهة نظر خبير Expert ولا كشهادة شخصية بل كسلسلة من الحقائق المركزة على الشعور بحقوق الإنسان وتناقضات التجربة الاجتماعية والتي صغتها بقدر الإمكان من لغة الواقع اليومية.هناك عدد من المقدمات الأساسية التي تدعم حجة الكتاب: الأولى هي استمرار وجود الشعب العربي الفلسطيني والثانية هي أن فهم تجربته ضروري لفهم المأزق بين الصهيونية والعالم العربي. والثالثة هي أن إسرائيل نفسها ومؤيديها حاولوا طمس الوجود الفلسطيني قولا وفعلا، بل أن قيام الدولة اليهودية مبني في العديد من الطرق وليس كلها على إنكار فلسطين والفلسطينيين حتى أن مجرد ذكر اسم فلسطين أو فلسطيني في إسرائيل يعني بالنسبة إلى أي صهيوني تسمية ما لا يمكن تسميته. لذا فإن تأكيد وجودنا سيعمل بقوة على اتهام إسرائيل بما فعلته بنا. 

أخيرا أقول أنّ من المسلم به أخلاقيا أن للبشر أن يتمتعوا بحقهم الأساس في تقرير مصيرهم ومن غير المشرع تهديد الإنسان بالترحيل transfer من منزله أو أرضه او ممارسة التمييز ضده بحجة أنه من دين x وليسy  او تجريده من أرضه وهويته الوطنية وثقافته.

في النهاية اعتقد أنني أطرح في هذا الكتاب تساؤلات حول ما هي إسرائيل وما هي الولايات المتحدة وماذا يفعل العرب تجاه الفلسطينيين؟ وبالنظر إلى حقائق التجربة الفلسطينية فأنني لا اعتقد على الإطلاق كما يعتقد الرئيس أنور السادات وأنصاره أن 99 % من الأوراق هي في يد الولايات المتحدة ولا اعتقد في الأساس أنها في أيدي إسرائيل أو الدول العربية. 

بيت القصيد في الواقع داخل هذا الكتاب هو أن هناك الأيادي الفلسطينية التي تلعب دورا فاعلا في تحديد تطلعات الفلسطينيين وسياساتهم وصراعاتهم وانجازاتهم ونكساتهم. ولا أنكر أن هناك مكانا مهما للمسألة الفلسطينية في ما يفكر به اليهود والأمريكان وما يفعلونه إلا أن هذا المكان الذي يخاطبه كتابي هو تجربتنا كشعب كان على أرض اسمها فلسطين وصار مجردا وممحوا بعدما أجبر الملايين منا على مغادرة فلسطين فجعلونا مجتمعا غير موجود من أجل إنقاذ ما تبقى من يهود أوروبا الذين نجوا من النازية!! 

معيار أخلاقي سياسي يتوقع منا أن نضع جانبا مطالباتنا بوجودنا الوطني وأرضنا وحقوقنا الإنسانية. بأي حق يتحول شعب بأكمله إلى شيء غائب وتشن عليه حملات تقودها جيوش بقصد محو اسمه وتغيير تاريخه لكي يثبت عدم وجوده؟ ان كل القضايا المحيطة بالفلسطينيين معقدة وترتبط بسياسات القوى العظمى والنزاعات الإقليمية والصراع الطبقي والتوتر الإيديولوجي. والقوة المحركة للحركة الفلسطينية هي في وعيها بهذه الأسئلة ذات الأهمية الكبيرة.

الفلسطينيون ليسوا وحدهم في ما يتعرضون له من سوء فهم وتجاهل من قبل الولايات المتحدة التي تسعى لبناء سياسة خارجية في آسيا وإفريقيا. من المؤكد أن المعارضة الإيرانية التي أسقطت الشاه في كانون ثاني 1979 هي الأخرى مثال واضح على ذلك. وفيما يتعلق بالمشكلة الفلسطينية أعلنت حكومة الولايات المتحدة أنها تؤيد السلام الشامل في الشرق الأوسط والذي كان من المفترض أن يتضمن حلا عادلا للمشكلة الفلسطينية من جميع جوانبها. ولكن منذ كامب ديفيد أصبحت الولايات المتحدة عاجزة أيضا عن رؤية المشكلة برمتها أو التعامل معها بجدية بأي شكل من الاشكال. وإلا لماذا تفترض أن أربعة ملايين شخص يجب أن يكونوا راضين بما قبلته مجموعة قومية أخرى؟ لماذا تفترض أنه يمكن التوقيع على المعاهدات في غياب الطرف الرئيس في النزاع ؟ ولماذا تفترض أن السياسة الخارجية يمكن القيام بها دون مواجهة اللاعب الرئيس في المنطقة وجها لوجه ؟ ولماذا تفترض أن الجماعات المعارضة يمكن ببساطة التخلص منها؟ لماذا تفترض أن الفلسطينيين أكثر من أي طرف آخر يقبلون بالاحتلال الإسرائيلي ؟ ولماذا لا تفترض أن الفلسطينيين سيقاتلون إلى أجل غير مسمى لاستعادة حقوقهم الوطنية المغتصبة ؟ 

هذه الأسئلة وغيرها يحاول هذا الكتاب طرحها والإجابة عنها في ضوء المتغيرات والاضطرابات التي تحدث بشكل مدهش في الشرق الأوسط . وآمل أيضا أن يجد القارئ في الفصل الختامي تحليلا عادلا تمت مناقشته حول تلك القضايا السياسية المباشرة التي تحكم الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد كامب ديفيد والسياسة الأمريكية والسياسة العربية والإقليمية والمواقف الفلسطينية.

لم يكن تأليف هذا الكتاب سهلا كونه يتعامل في جزء كبير منه مع ردود الأفعال في ما يعنيه التاريخ الفلسطيني الحديث. وجزء كبير منه يأتي في مسعى للإحاطة بحق تقرير المصير الفلسطيني وهو المسعى الذي طرحته في أثناء وجودي في المنفى. لقد تأثرت حتما بقوة الأحداث اليومية والتغيرات المفاجئة. 

أشك في أنني نجوت من تأثير هذه الأشياء ولكن من الخطأ في كل الأحوال الهروب منها تماما. كنت واعيا بمحاولة تقديم أكثر من مجرد ملخص للتاريخ الحديث أو التنبؤ بتطورات الغد. وآمل أن أكون قد وضحت الشأن الفلسطيني وشرحت مدى ارتباطه بالشأن السياسي المعاصر. إن التعبير عن إحساس المرء بنفسه كفلسطيني بهذه الطريقة يعني الشعور بالحصار. بالنسبة للغرب حيث أعيش فإن كونك فلسطينيا يعني من الناحية السياسية أن تكون خارجا عن القانون من نوع ما أو على حال دخيلا وهذه هي الحقيقة إلى حد كبير وأنا أذكرها فقط كوسيلة للإشارة إلى الوحدة التي أعاني منها في مشروعي في هذا الكتاب.

انا ممتن لدبي روجرز وأسماء خولي وبول ليباري لمساعداتهم في إعداد المخطوطة ومن ناقشتهم من الزملاء الفلسطينيين وهم مثلي ناضلوا لفهم وضعنا كشعب).

انتهت المقدمة وقد أهدى سعيد كتابه (مسألة فلسطين) إلى فريد حداد ورشيد حسين إحياء لذكراهما، وقد أثرا فيه بشدة ووصفهما بأنهما ( كانا رجلين صالحين تماما.. الأثنان أضاءا لي القضيّة الفلسطينيَّة التي ضحيا بحياتهما من أجلها إلى جانب كثير من المواطنين الذين عاشوا في أماكن عدة). وفريد حداد طبيب فلسطيني عاش حياة المنفى ومات عام 1961 ورشيد حسين شاعر فلسطيني ساخر عاش في بلد عربي وفيه مات 1966.


1 - The question of Palestine a compelling call for identity and justice , Edward W. Said, published by Times books , first edition, New York, USA ,1980.