عالم صلادي.. رمز الديناميكيّة المشحونة ببُعدٍ صوفي

ثقافة 2023/11/13
...

 محمد رشدي*
 ترجمة: عزالدين بوركة

تبدو هذه اللوحة كأنّها خارجة لتوها من حكايات خرافيّة مذهلة، سبق أن هزت طفولتنا، والتي كان يعدّ على إثرها الحكواتيون، منذ القدم، حبات تسابيحهم في ساحة جامع الفنا.
إنها منجز من تركيب تماثلي متناسق يتناسب مع شكل مستطيلي عمودي، حيث ينكشف لنا عالم تشكيلي مشحون، بقوة، بالعناصر الرمزية. إنهما البعدان، التشكيلي والرمزي، اللذان تحاول هذه الدراسة الكشف عنهما. يتجسد محور التماثل بوضوح من خلال تصاعد شجرة مخروطية الشكل، مغطاة بالكامل بأوراق الشّجر الخضراء الكثيفة. أوراق مرسومة بدقة ورِقة، وَرقةً تلو الأخرى، تمامًا مثل أسلوب لو دوانييه روسو Rousseau.
على جانبي الشجرة تتواجد شخصيتان شبه عاريتين، يميناً يجلس رجل وعلى اليسار تجلس امرأة بتصفيفة شعر مصريَّة، مثلما جرت العادة في لوحات ورسومات عباس صلادي، الذي يبدو أن شخصيات أعماله تأتي مباشرة من العالم الفنيّ للعصور المصريّة القديمة. يجلس الزوجان وأرجلهما مطوية ويمتدان على أوراق الشجر. يُحملقان في الشجرة. خلفهما ينمو فرعان متموجان، ينتهي كل منهما بورقة واحدة على شكل قلب، يقف على كل منهما طائر لا تُرى أرجله. إنهما طاووسان برأسين صفراوين، يتقلدان قلادتين مزينتيْن بشرائط عمودية من اللونين الأزرق والأبيض. ونظرًا لاختلاف حجميهما، يمكننا أن نستنتج أن الفنان وضع ذكرًا جهة الرجل، وأنثى جهة المرأة. ولا شك أن الفنان يسعى من خلال هذين الطائرين الرمزيين، إلى تمثيل روح كل من الشخصيتين "الرجل والمرأة"، اللتين تتقلدان أيضًا قلادتين تتناوب ألوان الشرائط فيهما بين الأصفر والوردي. بينما يرتدي الرجل ثوباً نسائيا بشرائط زرقاء فاتحة وصفراء.
غالبًا ما يهتم صلادي برسم أرضية لوحاته، المكونة من البلاط الأبيض والأسود، والحدائق المزهرة والمروج المشذبة بعناية.. مما يسمح للفنان بإنشاء الإعدادات المختلفة التي تتطور فيها شخصياته.
بينما لا شيء هنا من ذلك كله. لا تظهر في هذا العمل أحواض زهور ولا إنشاءات معمارية. يقع هذا المشهد الرومانسي في قمم الأشجار التي تبرز على خلفية فاتحة اللون. هذا الوضوح ليس إلا بياض الورقة المُحتفظ به سندا "خلفيا" للعمل. وهكذا يضع صلادي شخصيتيه على شجرة ويجعل نظرنا مثبتا صوب مستواهما، كما لو كنا نحن أنفسنا، جالسين على شجرة أخرى، ننظر إلى مشهد يحركه الإيروس الغامض المُبهم وحيث كل شيء يؤدي إلى الارتقاء.
في الواقع، فإن الحركة العمودية للتصاعد العمود المحوري للشجرة، مصحوبة بإنحناء رأسي ونظرات الزوجين البشريين المتقلبين (رمز الديناميكية الصاعدة)، ولكن أيضًا بحركة وانحناء الفروع المنتهية بورقة واحدة الشبيهة برأس الحربة المشيرة إلى الأعالِ السماوية.
بلا شك، هذا العمل أكثر من مجرد علاقة أفقية بسيطة بين الزوجين الحبيبين المرتبطين بحركة التوائية [جَيْبِيَة] تبتدئ من بطنيهما المجوفين. يقودنا عمل صلادي هذا إلى زخم عمودي، كما لو كان يهدف إلى بلوغ عوالم النشوة. إذ يسعى إلى الارتقاء بنا نحو عالم سماوي يمكن أن يرمز إلى نمو مُشجرّ وإلى العصفورين المستعدين للإقلاع ليضيعا في عنان السماء.
تتكرر الحيوانات والنباتات البرية باستمرار في أعمال صلادي الذي يعمل دائما على التعبير عنهما في شاعرية مصنوع من الانزلاق والأصداء، من الصلات والتهجين.. إذ يزرع الفنان باستمرار أدوار التحوّل والتمسّخ، التي تنقل هيئات الجسم البشري إلى الشجرة ومن الشجرة إلى الطير، وبالعكس..
يعدّ فن صلادي معقداً للغاية، وخاضعا لعدد لا يُحصر من التأويلات. قد يبدو عالمه "فطرياً"، لكن الفنان العصامي، الذي علّم نفسه بنفسه، يُظهر اتقانًا لا يمكن إنكاره لتقنيات الرسم والتساوق عبر كل من اللون والتكوين.
في الواقع، تشهد أعماله على استكشاف رُسوميّ ولونيّ غير عادي وابتكار شكليّ مذهل. وبالنسبة لنا، أنّ مفرداته التشكيليَّة واضحة. الخط دقيق، واللون صريح ومطبّق بدون نتوءات أو حوادث عرضية، والأشكال مُتقنة للغاية ومحددة بوضوح.
ومع ذلك، يظل الفنان في المقام الأول صانعاً للصور وليس فنانًا تشكيلياً تحديدا. إذ لم يكن هدفه التصوير الصباغي بحد ذاته، بل توليد صور رُؤيَوِيّة.
حيث إنّ فنّه هو فنّ الحُلم، وفن الحلم خاليّ من كل نزعة شكليّة. وهذا ما يفسّر بلا شك سبب منح صلادي للرسم الأولوية دائمًا على التصوير الصباغي والخط على اللون، إلى الحدّ الذي يسمح له العنصر الغرافيكي بتحديد الأشكال وتسجيل المشاهد بشكل فعّال في المساحة الأيقونية.
ممزق بعمق بسبب العلاج من المرض النفسي، يكتشف صلادي غريزيًا عبر التعبير الفنيّ عن إمكانية علاجية، ووسيلة للهروب إلى بلد أبعاده من نسج خياله. وهكذا اختار الفنان وطنه في المنطقة الخصبة للخيال والابتداع الحُلمي. إنه إذن، فن ينبعث من الأحلام "النوم"، وأيضا من أحلام اليقظة.
باستعارة أشكاله من الواقع، يعمل صلادي على إظهار عالم شخصي تماماً، حيث يتم التعبير عن اللاوعي الفردي واللاوعي الجماعي. عالم خيالي يظل دائما مشحونًا ببعد صوفي وغامض.
من الواضح أنّ الفنان لا يسعى بأي حال من الأحوال لترجمة رؤية واقعية. إذ تعدّ معالجته الرسومية واللونية دقيقةً، ولكنها تظل حرة ومستقلة فيما يتعلق بالمرجع البصري. إذا كانت الأجسام البشرية ضخمة، فهي غير متناسبة وتشريحها غير صائب. تتم معالجة أوراق الشجر بانتظام تام تقريبًا، ورقة بورقة وبعيدًا عن أي احترام للرؤية الواقعيَّة التي تأخذ في الاعتبار التشوهات الناتجة عن الاختصارات والاختلافات في الحجم بسبب قوانين المنظور. وإذا كان المعلاجة المتدرجة تسمح له بوهبها حجما معيناً، فإن تلوينها بالأخضر يلغي تباين الظلال الطبيعية واللعب الواقعي بالظل والنور. وإذا كانت أوراق الشجر خضراء، فالسماء بالمقابل ليست سوى بياض الورقة. أما بشرة الشخصيات "المصبغة" باللون الأبيض والرمادي والأسود فهي بعيدة كل البعد عن الواقع البصري. والصور الظلية "السيلويتات" للطيور تعدّ اعتباطية. وذلك لأن الكون الذي يهدف صلادي إلى فتحه لنا ليس واقعياً بل مُعبرا ورمزياً وموحياً. إنه عالم معاكس للواقع، عالم حُلمي صنيع الحلم وأحلام اليقظة، الهذيان وفقدان الوعي.. يكفي أن نستسلم للحركات المفعم بها هذا المنجز، مثلما هي باقي أعمال صلادي، حتى نجد أنفسنا في عالم
آخر.
عالم يفتح أمامنا مسارات الأحلام النهارية على مصراعيها، عالم خيالي تتطور فيه باستمرار كائنات غريبة وفريدة للغاية، على الرغم من أنّها مكونة من عناصر مستعارة من الواقع البصري. عالم، في النهاية، تسكنه خصوبة الأحلام القادرة على تقديم شعر حالمٍ وغامض.
مثل كل أعمال صلادي، يعكس هذا الرسم بالألوان المائية تعبيرًا عن القمع العميق الذي يعانيه الفنان، ولكنه أيضًا، بلا شك، عن الكبت الجماعي. في الواقع، يستغل الفنان في أعماله قاعدة مرجعية أيقونية كاملة يغذيها على مدى قرون خيال جماعي خصب للغاية. يبدو أن هذا العمل مستمد مباشرة من الحكايات الشعبيَّة التي ظل كبار الرواة يروونها في ساحة جامع الفنا منذ القدم. الحكايات التي تكشف قصصًا هذيانيةً لا نهاية لها، حيث لا يتوقف الخيال والعجيب، والواقعي والخيالي، عن التشابك أبدًا ليأخذنا إلى المناطق الأكثر دفنًا في أعماقنا النفسيَّة.
المصدر:
Diptyque, N°4, Février-Mars 2009, P. 95-97.
(باحث جمالي مغربي وقيّم على المعارض)*