فلسطين في الرواية العراقيَّة

ثقافة 2023/11/13
...

   باسم عبد الحميد حمودي

 شغلت قضية فلسطين الرواية والقصّة العراقيَة القصيرة بعامة، وتحتاج لدراسة تفصيليَة لهذا الجانب من الأداء السردي العراقي إلى مجموعة رسائل جامعية وبحوث مستفيضة، لأن الوجع الفلسطيني يشكل جانبا مهما من البنيان التاريخي والنفسي للفرد العراقي.. فكيف بصاحب القلم والفكر من الذين أسهموا أسهاما نبيلا من العراقيين في حركات المقاومة، وممن كتبوا الرواية والقصة القصيرة وهي تبني جزءا من التجربة النضالية العراقيَّة في حدود فلسطين ومن أجلها؟
أذا استثنينا روايات الفلسطيني العراقي جبرا إبراهيم جبرا، وعبد الرحمن منيف البغدادي السعودي، ووقفنا عند رواية عبد الرحمن الربيعي (هناك في فج الريح) وتصويرها للفلسطيني المهاجر قسرا إلى تونس، لوجدنا أن تفاصيل اشتغال السارد العراقي بقضية فلسطين متعددة، وتأتي في إطار نضال وطني عام يتكامل مع الوعي الدائم بالقضية الفلسطينيَّة والدور العراقي في دعمه، والحرص على إظهار اهتمام السارد العراقي بالقضيّة الفلسطينيَّة.
وإذا كانت تداعيات حرب حزيران 1967  قد أفرزت الكثير من صور الأداء السردي العراقي على صعيد القصة القصيرة، فإن رواية (الرجال تبكي بصمت) لعبد المجيد لطفي تشكل جزءا من فورة أدائية تستقطب الحزن والرفض لما حدث.
في الوقت ذاته، نجد أن رواية موفق خضر (المدينة تحتضن الرجال) قد كتبت أثر العدوان الثلاثيني على مصر من قبل الكيان المحتل، إضافة لبريطانيا وفرنسا.. يوم كانت الولايات المتحدة أكثر انصافا وحيادا قبل أن تنحاز بشكل واضح اليوم.
أما (مصابيح أورشليم) للروائي علي بدر، ليست آخر مطاف الرواية العراقيَّة في هذا الجانب، ولكنها شكلت طفرة فكريّة وهي تعيد تشكيل جزء من حياة المفكر ادورد سعيد وهو يطوف في شوارع القدس التي تغيرت ديموغرافية الكثير منها، رفقة يائيل وأستر، وهما شخصيتان روائيتان يهوديتان صنعهما كتاب يهود مثل عاموس وسواه.
 الرواية مبنية بالأساس على (لعبة) هي عبارة عن مخطوطة وجدها في بغداد أيمن مقدسي الفلسطيني، وتحوي على كتابات ومذكرات شتى، وترتبط نوعا بالصراع العربي الإسرائيلي، حيث يصل بنا الروائي إلى صراع المثقفين بين سعيد الفلسطيني المدافع عن  العراق والرافض لغزوه وبين العراقي كنعان مكية الذي يدافع عن خيارات الحرية القادمة في غزو العراق، ثم يكتب (الصخرة) رواية تعيد تشكيل الرؤيا  وتكتشف الغائب المدان.
أن (مصابيح أورشليم) تكشف عن وعي الكاتب لما يدور حوله في عالم لا يتسلح برؤيا واحدة، بل برؤى متصادمة.. ألم تكتب (يائيل ديان) ابنة موشي ديان روايتها (غبار) لتدين أيامها حرب الأيام الستة وتضع الموت دربا  للصراع؟
إن علي بدر يوجه رسالة تضاد للموت ويدين العسف والجحود وتغيير صياغات التاريخ والحقيقة، وهو في ذلك يستكمل رسالته الروائية الأولى في (حارس التبغ) عن الدياسبورا اليهوية وتضاداتها.
 في هذه الرواية نجد اليهودي العراقي يوسف صالح لا يحتمل التهجير الذي جرى قسرا لليهود إلى فلسطين، فيعود إلى بغداد عن طريق إيران مستخدما اسما جديدا هو كمال مدحت الموسيقار الذي اشتهر بغداديا، لكنه يُهجر من جديد إلى إيران باعتباره من (التبعية) كما كانت السلطة الحاكمة قد أطلقت هذه التسمية على الكورد الفيليين ومن أجدادهم الذين كانوا يحملون الجنسية الإيرانية.. يعود (يوسف) ثالثة إلى بغداد بعد طول معاناة ليشتهر كموسيقي بارع، رافضا الانتماء إلى عقيدة شوفينيّة معادية للأرض هي العقيدة الصهيونية، متمتعا باستقلالية صنعها لنفسه كموسيقي عراقي، لكنه يقتل خلال عام 2006 وترمى جثته قرب جسر الجمهورية لتنتهي آمال العيش بإرادة شخصية ترفض الانتماء إلا للعراق وحده وللفن معا.
استثناءات اللعب الروائي تجدها في (طشاري) لانعام كججي، حيث تجد الضابط العراقي اليهودي جرجس منصور يصبح ناصري الإتجاه ويقاتل كضابط في الجيش العراقي، فيما تجدها في رواية (النبيذة) شخصيات متضادة غريبة البناء النفسي والاجتماعي، أبرزها (تاج الملوك عبد المجيد) صاحبة مجلة (الرحاب) القريبة من البلاط الملكي التي تكتب في مجلتها تعلن حسد الناس لها، وإتهامها بالجاسوسية.. وتكون قبل ذلك قد إلتقت بالبرفيسور الفلسطيني منصور البادي أثناء عملهما المشترك في إذاعة باكستان باللغة العربيَّة، حيث نشأت بينهما علاقة حب عاصفة لم تصل إلى حدود المطابقة، فقد عادت تاج الملوك إلى بغداد لتصدر مجلتها بعد غلق الإذاعة وسافر منصور إلى فنزويلا، ليبدأ رحلة شتات فلسطينية طويلة.
حاول منصور، وهو يدور بين بلد وآخر لقاء تاج الملوك في باريس بعد زواجها من ضابط فرنسي وسلسلة مغامرات متعددة، لكنها ترفض اللقاء.. ماتت الأحلام لديها وضاعت أحلامها لدى الفلسطيني وهو يخدم روح الثورات في أمريكا الجنوبية.. خسر منصور أحلامه بفلسطين وبحبيبته المرتجاة، وخسرت تاج الملوك أحلامها بحياة هادئة.
الرواية تحمل تفاصيل كثيرة ومتشعبة بلغة أخاذة ممتعة، والملاحظة التي لابد أن تقال هنا إن تسمية (تاج الملوك) صاحبة مجلة (الرحاب) يعد نوعاً من تغيير التسمية فاسم صاحبة مجلة (الرحاب) الحقيقية هو (أقدس عبد الحميد) وهي معلمة مدرسة فلسطينيَّة، عملت في بغداد لفترة ثم ابتلعها الشتات الفلسطيني إلى حيث لا نعلم.
 قبل كل هذه الروايات صدرت لعبد الرزاق المطلبي رواية (شرخ في الجدار الصدئ) المبنية على تجربة الكفاح الفلسطيني من أجل وطن حر مستقل لم تحققه الأحلام، فيما جاءت رواية زهير الجزائري الأولى (المغارة والسهل) لتصور على نحو جريء ذلك الصراع بين المنظمات الفلسطينيَّة والأردن خلال ايلول الأسود وخسارة التجربة الفلسطينيَّة للكثير من رموزها ونشاطاتها عبر الانحراف الثوري الذي أصاب التجربة.
أثارت هذه الرواية التي صدرت عام 1974 اعجاب النقاد، وعقدت مجلة الأقلام في حينه ندوة عنها شارك فيها المؤلف (الشاب يومها) وساهم فيها الاساتذة «جبرا ابراهيم جبرا، وعبد الرحمن منيف، وباسم عبد الحميد حمودي، وعبد الرحمن الربيعي، وطراد الكبيسي» للقضايا الجريئة لتي طرحتها رواية الجزائري البكر.
 وأصدر حميد العقابي، روايته (أصغي إلى رمادي) التي صورت بطلها الرسام الشاب، وهو يلتحق بالمقاومة الفلسطينيَّة، وينتحر بعد أيلول الأسود وهو في هذا يصور شخصية الشّهيد العراقي إبراهيم زاير الذي قاتل في صفوف المقاومة وانتحر يأسا بعد طول عناء.
وتأتي رواية الشهيد الدكتور علاء مجذوب (حمام اليهودي) لتصور في جانب مهم منها علاقة أبو يعقوب اليهودي بطقوس كربلاء وعشقه لها، ورفضه الهجرة إلى الدياسبورا اليهودية، متحصنا بالحمام  الذي احتواه كمقر تعويضي يحميه من الخارج الذي يريد دفعه إلى مصير تهجير لا يريده.
في رواية (حليب المارينز) للدكتور عواد علي، تجد الكثير من الشخصيات التي تحتشد في مجتمع متباين الثقافات والأعراق، لكن الشخصيات الثانوية داخل الرواية لها حضورها الدرامي المتقابل، ففي الوقت الذي نجد فيه شاهين المثلي السادي يقتل (نيا) التي قاومت نزعاته طويلا، نجد أن (روزا) الرّسامة اليهودية ترفض التهجير إلى الأرض المحتلة، وتهاجر من العراق إلى كندا، للاحتفاظ بشخصيتها الرافضة للظلم في وقت قامت فيه قبل هذا بالتبرع ماديا لتخليص مختطف من خاطفيه.
في  روايته الأخرى (نخلة الواشنطونيا) التي تطرح صورة بانوراميّة تاريخيَّة معاصرة لا عن كركوك فقط، بل عن العلاقات الإنسانيَّة القائمة بين الشخوص وهم كثيرون، يشدنا منهم الفلسطيني جهاد البشير الذي يرتبط بصداقة وطيدة ببطل الرواية (كمال) زميل الدراسة، ويظل وسط صورة الحياة المحتدمة في العراق حتى يضطر للهجرة، ولكن وسط تكوين فلسطيني باحث عن الحقيقة، العامل من أجل وطن مفقود يراد له أن يتكون من جديد رغم إرادة الشر التي تحيط به.  وبعد، فإن نصوصاً روائيّة عراقيَّة أخرى تحتاج إلى تدقيق وتحليل، لتتكامل صورة بانورامية للمشهد الروائي المهتم باستمرار بقضية فلسطين والمقاومة البطلة من أجل دولة فلسطينيّة تجمع ذلك الشّعب الشجاع المقاوم في أرضه المعطاء.. أرض الزيتون والأمل والحرية.