د. كريم شغيدل
لقد شهدت الحياة اليوميّة للعراقيين عقب سقوط النظام السابق ما يمكن أن نسميه عنفاً مركباً، فثمة عنف متبادل بين القوات الأجنبية وقوى أخرى تتبنى مقاومتها بكونها قوات غازية محتلة، وهذا ما أنتج ردود فعل عنيفة للقوات الغازية تطال المدنيين الأبرياء، وهو ما يمكن تسميته (عنف من أجل العنف) أي لترهيب الناس وفرض القوة، كما جاء في قصيدة (وكأن شيئاً لم يكن) للشاعر عبد الزهرة زكي:
صمتت البندقية في يده
ورمى بقنينة العصير نصف الفارغة
على سيارةٍ
كان سائقها يتطلع إليه..
وبدا يتحدث ببرودٍ عبر جهاز اتصال على قميصه
ولم تستقر عيناه على أحد
من كثيرين
يهمون بإسعاف جثة قتيل
قضى برصاصة واحدة من بندقية.
مضت العربة الهامفي بالقاتل
وحمل الكثيرون القتيل
فيما عيونهم
على لوحة التحذير بالخط العربي الركيك
على الهامفي الأمريكية:
(ابتعد أكثر من 100 م.. القوة مخولة بالقتل).
هذه واحدة من صور العنف التي كانت مألوفة في الوقائع اليومية وقد حاول الشاعر تجسيدها بوصفها وثيقة لا تحتمل تأويلاً أو تحتاج صوراً متخيلة أو نظاماً استعارياً تقليدياً، إذ تكمن أهميتها في واقعيتها، وحين نقرأ العنوان الثانوي للقصيدة (أحد العرفاء، على الخط السريع، يطلق النار فيصيب واحداً./ براين تيرنر/ شاعر أمريكي، قاد حظيرة مشاة في العراق 2004) نتأكد من خلال الموجه القرائي المقصود بأننا أمام واقعة يراد توثيقها، إذ يختار الشاعر مقدمة محايدة جداً على لسان شاهد عيان هو (براين تيرنر)، ثم يأتي النص ليجسد وثيقة يراد لها أن تبدو محايدة، فإلقاء قناني الماء والعصير من لدن الجنود الأميركان على زجاج سيارات المواطنين من المشاهد المألوفة المتكررة، دالة على رمزية القتل والعدوانية، وهي تأتي هنا مقرونة برصاص بندقية تنهي حياة مواطن أعزل كان (يتطلع) وهذه المفردة لها محمولات تخرجها من دائرة النظر الطبيعي، أي إن المواطن لم يكن ينظر بتجرد، بل يتطلع، فقد يكون التطلع إيجابياً، ربما كان يتطلع إلى الجندي الأميركي بوصفه مخلِّصاً أو صديقاً يؤدي واجبه، وعلبة العصير ما هي إلا نيران صديقة للتحذير، لكن الجندي أعقبها بنيران قاتلة أودت بحياة المتطلع، وبينما يمر القاتل بعربته آمناً يتحدث عبر جهاز اتصال بلا مبالاة تاركاً وراءه جمع من الناس يحاولون إسعاف الضحية.
يمكن القول إن نص (وكأن شيئاً لم يكن) أراد تعرية العلاقة الملتبسة بين المواطن البسيط (عابر السبيل) والآخر (المحتل) المحتمي بمدرعة ويمتلك الحصانة الكاملة، ومصرَّح له بالقتل بدم بارد، بدون الحاجة لأسباب موجبة، وهي صورة تختزل نظرة الغرب المتعالي بما يمتلك من تكنولوجيا تدميرية، وتطلع الشرق الذي يرى فيه مرَّة مخلِّصاً وأخرى غازياً، مرَّة صديقاً حليفاً وأخرى عدوَّاً مستغِلاً، وقد يحيلنا النسق الثقافي لهكذا واقعة، إلى صورة الآخر (المستعمِر) وما أفرزته الكولنيالية الجديدة من عدوانية مبطنة، تستعيد من خلالها الصورة النمطية للاستعمار، لكن بمسوغات جديدة، وعبر لغة برغماتية جديدة مقنِعة للشعوب التي تعيش في ظل أنظمة استبدادية تقمع تطلعاتها الإنسانية والحضارية.
إنَّ الواقعة النمطية قد تمر أسوة بغيرها من الوقائع اليومية، لكن تحويلها إلى صورة فوتوغرافية، كما أرادت أن تصور لنا القصيدة، يخرجها من إطارها النمطي لتكون قابلة للتأويل، فالقناني الفارغة هي مجرد نفايات، وعملية إلقائها على المواطنين يحمل في طياته إهانة مقصودة، إذ لدى الجندي الأميركي وسائل متاحة للتنبيه، وإذا افترضنا بأنَّ العملية مجرد سلوك فردي فإنَّ هذا لا يتعرض مع ما ذهبنا إليه من التعالي الغربي الذي كرَّس لدى الفرد (الجندي الأميركي) الأنا المتضخمة والشعور بالخارقية والسوبرمانية أو الرامبوية، ولا نستبعد أن يكون هذا النسق نتاجاً أيديولوجياً ممنهجاً يتلقاه الجندي الأميركي الذي يراد له أن يبدو بصورة مخيفة للآخر.
كان للإعلام صدىً في توثيق الوقائع يستحضرها الشعر بوصفها تاريخاً يومياً، فعلى سبيل المثال أطلقت وسائل الإعلام صفة (الدامي) على الأيام التي شهدت مجازر بشرية بعمليات إرهابية، وهنا ينبغي الالتفات إلى كون الشعر لم يعد نتاجاً ذاتياً مغلقاً، بل هو فن التنافذ مع كل ما يتيحه الواقع من حوادث وفنون وتقنيات وخطابات أدبية وفنية مختلفة، وبما أنَّ الإعلام بأساليبه وصيغه المحدثة ووسائل اتصاله المختلفة يشكل اليوم غطاء مهيمناً للحياة، فإنَّ الكثير من الشعر أخذ منه سياقاته السمعية والمرئية، واستعار توظيفاته اللغوية، وهو ما وظفه الشاعر جواد الحطاب في قوله:
وتعددت الأيام:
الجمعة الدامي..
الأحد.. الثلاثاء.. السبت.. الأربعاء
.. امتلأ الأسبوع دماً
فمن أين سنستأجر أياماً بيض..
وهمرات/ فتاوى/ الأحزاب
سجَّلتنا(زائدة) حياتية!!!!!
يستعير هذا النص تزاوجاً كنائياً بين الأيام بوصفها دالاً زمنياً والدموية بكونها كناية عن واقع، وهذا التزاوج هو ما أطلقه الإعلام قبل الشعر، ثم يزاوج دلالياً بين الهمرات وفتاوى الأحزاب، بوصفهما مصدرين متواطئين للدموية، في محاولة البحث عن أيام بيض لا تصطبغ بلون الدم، وكلا المصدرين ينظران للمواطن بوصفه كائناً زائداً، في تزاوج دلالي آخر بين الزائدة الدودية أو ما يسمى بـ (المصران الأعور)، الذي يمكن الاستغناء عنه، وبين الإنسان الذي أصبح (زائدة) حياتية.
هذا النوع من الشعر يخرج كثيراً على ما اتسم به الشعر التقليدي من عيوب الخطاب، أو استعادة أنساق الهيمنة الأيديولوجية للشعر العربي، فلم نجد فيه صدىً للأنا المتضخمة أو الفحولة المشعرنة، ولم نتلقَ منه فخراً أو عنفاً وعدائية وإقصاءً للآخر، فالآخر ليس موضوعاً للهجاء ولا للمدح أو الرثاء أو الغزل، وإنما هو الجلاد أو الضحية، وإذا كان ثمة هجاء للجلاد أو رثاء للضحية، فكلا الحالتين تخرجان عن نمطية الغرضين باتجاه الموقف، ونعني به الموقف الأخلاقي تحديداً، أي رفض الجلاد والتأسي على الضحية أو تحريضها على الرفض، بمعنى آخر ثمة مدلول أخلاقي، بما يشبه الخطاب الإعلامي أكثر منه جمالياً أو رؤيوياً في هذا النص الذي يمكن تشبيهه بصرخة ضد ما يجعل الأيام دموية، وضد من يتصدى لإدارة البلد، كما لو أن الشاعر يرفع شعاراً في تظاهرة أو من على شاشة إعلان، وشعر الحطاب عموماً أقرب لللافتات أو الإشارات الضوئية للفت انتباه المتلقي، ووضعه في دائرة السؤال، ولولا كثافة الصياغة الشعرية وأسلوب اللعب على مدلولات الألفاظ بانزياحات دلالية لوقعت هكذا نصوص بالمباشرة الفجة الفاقدة لقيمتها الفنية
والفكرية.