صباح حيدر اباد

ثقافة 2023/11/13
...

  ياسين طه حافظ

إضافة كلمة الصباح إلى حيدر آباد ووصفه بها أو نسبته إليها، تعنيان أن ثمة ما يميز هذا الصباح وأن صباحنا فيه غير ما نصبح عليه كل يوم. الشمس توحد الصباحات، كما العواصف والرياح أو الامطار تمنح استثناءات. وجميع هذه الأحوال مما اعتدنا عليه ولا جديد. فهي ليست المقصودة بكلامنا ولسنا الآن معنيين بها. اليوم نحن بصدد صباح له ما يجعله مختلفاً أو يجعل مذاقنا ومشاعرنا أو رؤيتنا للدنيا مختلفة. هو صباح يذكرنا بما نسينا وينبهنا لما غفلنا عنه وما شغلتنا الصغائر الزائلة ومشاغل الخبز واحتياجات العيش عنه. فلم نلتفت لجوانب من الحياة مشوقة وأكثر ثمناً ومتعة. لو تأملنا، يجب ألا تفوتنا هذه ولكن ما معنى «يجب» هنا ونحن في قبضة الضرورات ولا مفرّ؟
اليوم استيقظت وأنا بعيد عما يشغلني كل يوم من الأطباء والأجنحة المزدحمة والانتظارات والقلق من النتائج والنوم تحت هذا الجهاز ومد الرأس تحت ذاك، لأكون في الطبيعة، خضرتها وذهبها ومع النعمة والخصب وغضارة وأزدهار الشجر، وليلامس الجمال أبعد نطاق الحرمان فيّ..
أمامي بيت، بيت – قصر، قلعة. طرازه ومتانته والعناية بجبهاته وشرفته الرئيسة الواسعة، تذكرك بقلاع العالم القديم التي سكنها حكام وأثرياء المدن، تلك التي قرأنا عنها ونقلت للناس أخبارها الكتب. هذا البيت المنيف، القصر الأبيض، والأبيض لون شائع في حيدر آباد، لغالب البيوت الكبيرة.
هذا البيت القصر له قصة لا أحد تماماً يعرف كيف جرت وما هي نهايتها.
للناس مخيلات ولهم ما يرونه، كما أنهم يحولون ما يظنون إلى حقائق.
حسبما علمت، بدأوا البناء في السنة الماضية وطيلة العام يعملون. حتى النجارون صنعوا الأثاث فيه، لا في محلاتهم وكانوا شبه مستقرين حتى انتهوا وسلّموا المطلوب منهم. فالبيت المنيف اليوم وسط خضرة وورد وشجر سامق غضارته تكاد تُرى. هي تلة شاسعة عليها أبنية، منازل ومكاتب وهو في الأرض المنبسطة، في الوادي والشارع الضيق الملتوي القديم على الأرض الحجرية العليا. يبدو الشارع المتلوّي بين الأشجار المعمّرة ممراً سرياً إلى حيث لا يدري أحد. الغريب هنا أن اولئك الذين تحت، هم الاعلون، وهم الأكثر ثراءً وأسراراً وهيبة جاه. هي ليست المعادلة التي عرفناها هذه معادلة أخرى.
والغريب أيضاً أن هذا القصر الخالي يضاء كامل الاضاءة ليلاً. وفي كل صباح يأتي عاملون ينظفون ويمسحون أثاثه وزجاجه وكأن سيأتي صاحبه أو سيحضر وموكبه بعد حين..
لكن لا أحد في البيت. البيت خال مضاء مكتمل ولا أحد!
هو في عزلة وكأن لا يريد اياً من العابرين يرى إليه. رصدت المشهد ليلاً وقد استيقظت، فرأيت قبل منتصف الليل امرأة بثياب النوم تخرج من انعطافته الشمالية، لتطفئ أكثر الأضواء وتبقي بعضها وتختفي. هي من بيت الخدم الملاصق للبيت وجزء منه، حيث سكنهم للحراسة والعناية ولاكتمال الوجه الاجتماعي لأثرياء وسادة المدن. ولعله طقس موروث أن تأتي سيدة بثياب النوم إلى سيدها بعد سكون الليل، فهي هنا تؤدي الدور.. لن أعرف أكثر، ما زلت أبحث عن معرفة ما وراء، وما في البيت من أسرار وأنا أنظر له من بعد. ترسخ لي من قبل راي أن ثمة من يؤمن بعودة الأرواح إلى بيوت أصحابها. يتفقد الميت العائد بيته وقد يترك وصية. صاحبها غادر الدنيا قبل أن يكتمل البيت، وصار من بعد يعاود الزيارة، يجوس غرف البيت وقاعاته ويرى نظافته واضاءاته وهيبته بين البيوت ثم يعود بصمت.
هذا ما لا نهتم به. ونستذكر أن للناس أسرارهم، ولكل امرئ ما يخفيه. وأن الكون ملاذ وسكَنُ معان، وأن معنى مريحاً يلامسنا قليلاً ولا نراه. وهو هذا ما نفتقده ونحن نركض ونلهث وراء هذا وهذه من حاجات ومطالب، نريد أن نصل ولا نصل إلا إلى نهايتنا فنخمد من نصَب ونترك الحياة وكل ما حصلنا عليه وما أردنا الحصول عليه وراءنا، لسوانا وللفراغ.
صباح حيدر آباد يرفع رأسي عن الورقة وأترك القلم لأنظر بصمت لحديقة القصر، لاشجارها وزهرها والطيور، للجنة المهجورة هذه التي ما يزال يمتلكها رجل مات! للغريب القادم أن يفهم ما يفهم ويجد تفسيراً ولن يكون أبداً آخر التفاسير. لا يُستغني ابداً عن الغموض،  البيت الآن في رأي الناس حواليه ملك الأرواح، أرواح الموتى يأتون ويلتقون وتجري بينهم أحاديث. يجتمعون على هذه المائدة الانيقة البلورية ذهبية الحافات ساعة أو أقل ثم ينفرطون. هذا ما قاله لي رجل في الجوار.
ما أقوله: قد تشغل هذا المبنى يوماً مؤسسة مصرفية فتلغى كل أوهامنا، تلغى الأرواح والمعاني وتزدحم الحجرات بالحواسيب والأرقام.
هنا الخاتمة تحيلنا إلى ما لا نتوقع أو ما لا نعرف أو ما لا نريد. إلى مصائر بيوتنا التي بنيناها بكدح أضاع سنين، ماذا ستكون دارك؟ عمارة، بيت أيتام، صالة قمار، تمحى من الشارع والخارطة ثم من الذاكرة؟ نحن نرحل ونترك كل شيء، البيت والمقاعد والمكتب وخزانات الكتب وخربشاتنا البليغة ورسائل الآخرين لنا. هنا لا مثل حيدر آباد، لا أرواح تأتي، فلا جن بعد ولا شياطين. هنا نواجه، وتواجه مخلفاتنا، مهما ارجئت، الفراغ واللامعنى. المجهول ورياحه التي تكنس كل شيء.. صباح حيدر آباد كتاب مؤسٍ ومليء ولا أحد يجيد تماماً قراءته او قراءة ما فيه.
أطفأت المصباح المنضدي وتركت أوراقي لا لأني كتبت عنه وارتويت، ولكن لأني شعرت بأنني بعيد عن أشياء كثيرة مغلقة ولا أفهمها وحتى ما أعرفه، لا أعرفه!