عدنان حسين أحمد
على الرغم من حصول المرأة التونسية على الكثير من حقوقها الشخصية والاجتماعية، إلّا أنها لم تفلت كليًا من قبضة المجتمع الذكوري الذي ينظر إلى النساء نظرة دونية قاصرة لا ترضى بحق المساواة بين الجنسين المتساويين، إلى حدٍ بعيد مع الاعتراف بوجود فروقات ضئيلة لا تسمح بتسيّد الرجل على المرأة والنظر إليها كطائر حبيس في قفص العادات والتقاليد الاجتماعية البالية التي أكل الدهر عليها وشرب. وفيلم "الماشطات" لسونيا بن سلامة الذي يتنافس في مسابقة الأفلام الوثائقية للدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي، يرصد النساء كضحايا للمجتمع الأبوي "البطرياركي"، الذي يأخذ زمام الأمور بيده، ويمارس سلطته الفوقية التي تقهر المرأة، وتمسخ إنسانيتها، وتُصادر حقها في العمل، والحُب، والزواج، واتخاذ القرارات المصيرية في الحياة من دون الرجوع إلى سلطة الرجل المستبدِة والغاشمة في كثير من الأحيان. ومَن يتأمل فيلم "الماشطات"، سيجد أنها أقصت الرجل أيضًا وأبعدتهُ عن المشهد البصري إلى الدرجة، التي لم نرَ فيها "عادل"، خطيب السيدة نجاح طوال مدة الفيلم التي بلغت 82 دقيقة، كما لم نشاهد نعيم، زوج شقيقتها وفاء، الذي يعنّفها كلما أُتحيت له الفرصة، الأمر الذي أفقدَ قصة الفيلم حياديتها وتوازنها المطلوبين، خاصة أنّ سونيا هي التي كتبت سيناريو الفيلم بنفسها وجعلها تتحمّل مسؤولية مضاعفة لا يمكن أن تتملّص منها وتُلقيها على كاهل كاتب آخر.
تتمحور قصة الفيلم على ثلاث شخصيات رئيسة، وهي الأم فاطمة وابنتاها نجاح ووفاء، اللواتي يعملن كـ "ماشطات"، والماشطة تعني في اللغة العربية "المرأة التي تحترف تزيّين النساء وتمشيطهن"، ولكنها في تونس، تحديدًا، أخذت معنىً آخر وهو "المرأة الموسيقية التي تغني أغانيَّ تراثيَّة في حفلات الزفاف، وتعزف على الدربوكة والبندير، وترقص لتحقق للحاضرين جوًا من الفرح والسعادة والحبور". وقد ركّزت المخرجة على مدينة "المهدية" الواقعة في جنوب العاصمة تونس التي لا تستغني عن هذا النمط الشعبي من العزف والغناء التراثيين في حفلات الأعراس، الأمر الذي يُبعد هذه المهنة عن الفنون الهابطة التي تجرح الذائقة الاجتماعية أو تخدش الحياء العام.
تنهمك الأم فاطمة بعملها كماشطة منذ أربعة عقود، وقد بدت لنا شخصية قوية تبذل قصارى جهدها، من أجل الحفاظ على تماسك أسرتها من التفكّك خاصة بعد أن انفصلت نجاح عن زوجها، وأخذت تبحث عن شريك جديد لحياتها، فهي في أواخر الثلاثينيات من عمرها وتعتقد أنّ بإمكانها أن ترتبط ثانية مع رجل يمكن أن تحبه، وتنسجم معه، وتجد فيه ضالتها المنشودة. أمّا شقيقتها وفاء المتزوجة من نعيم ولديها أربعة أبناء فهي تتعرّض للتعنيف والإهانة من قبل زوجها بين أوانٍ وآخر، وتسعى للانفصال عنه بعد أن يئست من إصلاحه أو إمكانية التعايش مع سلوكه العدواني المستمر.
تتسع دائرة الشخصيات تباعًا، فالأم فاطمة لديها أبناء لا يسمحون لشقيقتهم نجاح المطلقة أن تتحدث بالهاتف مع رجل غريب، حتى وإن كان بهدف الزواج منها، كما يجب أن تعتني بولديها اللذين أنجبتهما من الزوج الأول، وألا تلتقي بـ "عادل" كثيرًا ولا تسمح له بأكثر من حدود التعارف الذي يفضي إلى الزواج. غير أن الأمور لا تسير كما تتمنى نجاح، إذ تكتشف أن "عادل" يختلق ذرائع شتى كي يؤجل الزواج وينتهي بهما الأمر إلى الانفصال. أمّا شقيقتها وفاء التي تركت منزلها مع أبنائها الأربعة ولاذت بمنزل أمها أيضًا، فقد دخلت في نزاع حاد مع زوجها الذي هدّدها بحرق الأوراق الثبوتية لأبنائها، إن لم تعد إلى المنزل خلال يومين. وحينما تفشل في البقاء مع والدتها تقرر العودة إلى منزلها، لكنها ترفض أن تتخلى عن عملها كماشطة، فمن خلال هذه المهنة تستطيع أن تكسب دخلاً إضافيًا يُعينها على تحمّل أعباء الحياة المعيشية. لا تقتصر مشكلات وفاء على تعنيف الزوج وسوء معاملته لها ولأولادها الذين يشجعّونها على الانفصال عنه، فهي تريد أن تزوج ابنتها غفران التي تبلغ 17 ربيعًا من رجل مغترب في فرنسا يبلغ عمره 41 عامًا، حيث تعترض نجاح على فارق السن الكبير بينهما والذي يمكن أن يؤدي إلى النتيجة نفسها، التي مرّت بها الشقيقتان غير المحظوظتين.
تتراكم هذه التوترات والاكسارات النفسية، وحينما تذهب الأختان مع أمهما لإحياء حفل زفاف جديد وترقصان بعنف وانفعال شديدين، حتى تسقطا من الإعياء في الغيبوبة.
جدير ذكره أنّ المخرجة الفرنسية من أصل تونسي سونيا بن سلامة نشأت في باريس. درست السينما في جامعة السوربون الجديدة. أنجزت سنة 2015م فيلم "مكتوب"، و"الماشطات" هو فيلمها الوثائقي الثاني.