جورجيا أوكيف: أكره الزهور

ثقافة 2023/11/14
...

 ابتهال بليبل


ظلت الفنانة جورجيا أوكيف لمراحل عديدة من حياتها وهي تعترض على تلك القراءات النقديَّة التي تعد أفكارها جنسية غير واعية، لذا سعت إلى أن تذكّرنا دوماً بأهمية ما تنتجه المرأة في الفن، بوصفها العامل الرئيس لتحريك السواكن الثقافيَّة والمعرفيّة حينما تشاء ذلك.

الفنانة أوكيف التي مرّت عقود على رحيلها ( 1887ــ 1986) اختارت الحداثة الاستفزازية أسلوبا متميزاً في طرح تفاصيل دقيقة ومؤثرة عن المناظر الطبيعية، فهي "امرأة خالية من البهرجة الصناعيَّة وجسدها عبارة عن زهرة طبيعية" مضمخة بروائح الأرض وثراها، كما وصفتها مقالات رصينة قاربت أعمالها الفنية التي يستمر فيها استدعاء الزهور والتركيز على أشكالها وألوانها في بحث عن صلة تمنحها الحق كلّه في أن تحول اهتماماتها نحو السوريالية العقلانية عبر أشكال كبيرة من جماجم الحيوانات والتكوينات الصخرية التي تترمّز في تصورات دالة على الرغم من غرابتها ووحشيتها في بعض الأحيان.

تقول جورجيا أوكيف "أكره الزهور" تلك المقولة التي طالما جذبتني باستغراب وهي تؤكد بعبارات صادمة "أرسمها لأنها أرخص من العارضات والعارضين، ولأنها لا تتحرك"، فهي -أي كراهية الزهور- قد تكون معادلاً لوضعيتنا المتضادة، بين رغبتنا في تجاوز الكراهية ونبذنا لها، وبين إقبالنا اللاارادي نحو الحب والرومانسية، كما وجد العلماء الذين يدرسون الطبيعة الفيزيائية للكراهية في أن "بعض الدوائر العصبية في الدماغ المسؤولة عنها هي نفسها التي تستعمل أثناء الشعور بالحب الرومانسي". 

إنني افترض أيضاً – مستعينة ببعض الدراسات- بأنه من الممكن أن تكون الكراهية عاطفة مستهلكة تماماً مثل الحبّ، فهما يرتبطان معا بوضعيّة المحبّ الذي يرتكب أفعالاً عدوانية في سياق رومانسي، وهو ربما الطريقة الأنسب لتعريف أوكيف بنفسها، وبالأعمال الذي تتبنى أفكارها الفرويدية.  

وبالعودة إلى زهور أوكيف، فقد يكون الأمر كما وصفته دراسات أخرى "مشاهدة الزهور تدعم فكرة التعافي من التوتر النفسي، ومن ثمّ فأنه من المتوقع أن توفر مشاهدة الزهور تأثيراً يقلل من المشاعر السلبية"، أو قد تكون ألفتنا مع مناظر الزهور الطبيعية جزءا من اعتيادنا التقليدي الذي يغنينا عن إلقاء نظرة أعمق، واكتشاف القضايا التي تطرحها أوكيف من تهميش المرأة في الفن، حتى عندما اختارت تطوير أسلوبها الذي تحول لاحقاً نحو التجريد والواقعية لم تتجاوز ذلك بالفعل، بل دفعها الأمر في التعبير عن أفكار فلسفية وقيم ومعاني روحانية مستنبطة من حقيقة مفقودة أو مخفية.

الزهور في أعمال أوكيف ذات ظاهر وباطن، وسرانية وعلنية، وهي حينما تشكّلها في فضاء اللوحة تشكّل منظومة أخرى أعقد من التأويلات، لأن من يقرب أعمالها عليه أن يفكّكها محاولاً سبر غور هذا النسق الاستفزازي الذي يجيّر الكثير من الأشياء التي تبدو طبيعية إلى دلالات شديدة التوغل في النفس البشريّة وانفعالاتها المعقدة.

الجدير بالذكر، أنه قد أقيم لجورجيا أوكيف متحف خاص تضمن مئات اللوحات والأعمال الورقية من رسومات بالقلم الرصاص والفحم، فضلاً عن ألوان الباستيل والألوان المائية، وغيرها من ممتلكات شخصية لصخور وعظام وفساتين وفرش رسم، وأرشيف كبير من الوثائق والصور الفوتوغرافية المتعلقة بحياة الفنانة.