ما لم يَردْ في سيرة «الاخت» جولييت

ثقافة 2023/11/14
...

 طالب كاظم

                                    

لم يعد بالأمر اليسير، أن يسند هيكله الذابل، كما كانت عليه حياته لعشر سنوات مضت إلى غير رجعة، بعد أن بات مُسنّا جدا، بأذنيه المتهدلين وذقنه التي استرسلت على صدره الهزيل، كان حذرا وخائفا إلى حد ما وهو يطبق بأصابعه على مقبض عصاه الطويلة، التي يتفقد بها خطواته الواهنة، التي انتهت به تسند جذعه الذاوي نصف الاحدب، في منتصف الميدان الكبير، الذي شطر جانبي المدينة الضالة إلى نصفين، كان غاضبا وحانقا جدا، فكل ما يحدث هناك، كان يعده تجديفا لا يغتفر، بالأحرى لم يستطع تمالك أعصابه في تلك الظهيرة التي اختنقت بسحب الغبار الكثيفة، اذ استرسل بفم ادرد خاو، يحذرهم من اقتراب يوم الدينونة، أخبرهم أن إلهه غاضب جدا وحانق لأنهم مذنبون ومارقون، ولكن كرجل شحذته التجربة الكبيرة التي مر بها، لم يستطع البوح بما رآه تلك الليلة في يقظته، تلك الرؤيا التي داهمته لثلاث ليال تعاقبت عليه بكوابيسها المخيفة، يعرف أن لا أحد سيلتفت إليه وهو يتوعدهم بكلام القدير، في تلك الظهيرة  لم يعد بين يديه أي حل قد ينقذه من الخيبة، التي حلت به سوى أن يلملم أطراف ثوبه الصوفي البالي ويغادر الميدان بخطواته المتمهلة، يدرك أن لا جدوى من الصراخ الذي أهدره في الصمت الذي أحاط به، بينما ترانيم وصخب النساء المخمورات في حانة سادومي  ينسل كأفاعي ناعمة في طرقات المدينة الفاجرة، في تلك الليلة أخبره القدير، أن اليوم الموعود قد حل.

اغلقت الكوة الوحيدة في برج سفينته الهائلة، بانتظار الطوفان، في الوقت الذي انهمك فيه كهنة مدينته الضالة في شعائر تقديم القرابين والأضاحي، تعالت صيحات النساء المذعورات، حينما اخترق الثور الأبيض الضخم بخواره المخيف الممر الضيق الذي اختنق بالمخمورين، الطريق ليس أكثر من ممر ضيق معبد بالحجارة، الذي ينتهي عند بوابة المعبد، هناك تربص الكاهن بانتظار القربان الهائج الذي يعدو في الطرقات على غير هدى، أمسك الكاهن بحربة لامعة طويلة تحت عباءة طويلة من الكتان الناعم، ينتظر اللحظة التي سيطعن بها الثور الهائج بين عنقه الضخم وكتفه الضخم، ستنفذ الحربة في طريقها عبر طيات اللحم، حتى تقطع شرايين قلبه فيجثو القربان على ركبتيه هامدا بلا حراك، حينها ستغرق المدينة في عتمة اللذة والخمر والغناء الفاحش، لا أحد سيبالي بالتطلع إلى السماء المكفهرة التي اختنقت بالغيوم والبروق.

شارع الرشيد بناية المفتي الطابق الثالث الأخير. 

فيما هو يسلط مساقط ضوء الكشاف عليها ليضيء جسدها في الغرفة نصف المعتمة، وهي تشير اليه بسبابتها كما لو كان متهما قالت: نلت ثقتي! واحدة غيري لن تقبل بثمنك ولا بشروطك؟! ثم انهمكت تفرقع فقاعة اللبان التي إلتصقت بشفتيها القاتمتين وهي تخلع القميص الأصفر الضيق الذي إلتصق بطيات الشحم تحت مشد صدرها الأحمر. رد بلا مبالاة، ثقتك بي لا تقدر، ولكنك لا تهدريها هنا وهناك بلا مقابل.

سلط ضوء الكشاف الساطع، الذي غمر جسدها، حتى بدت حبات العرق التي تفصدت على وجهها، كما لو كانت لآلئ لامعة، فيما هي تحرر ساقيها من الجورب الأسود الشفاف، كما تخلصت من تنورتها القصيرة وألقت بورقة التوت المخرمة كمنديل ورقي مجعد تحت كرسي الخيزران، الذي جلست عليه، انهمك بنثر خصلات شعرها على كتفيها فيما هو يتحسس بأطراف أصابعه فقرات ظهرها الناتئة حينما حرر صدرها من المشد الأحمر، كانت واجمة كتمثال من الكلس والشحوب، تحدق في الفراغ الذي انسكب في عينيها، وهو يهمس في أذنها بنبرات ناعمة، بدت فخا للإيقاع بها أكثر منها توددا بمشاعر مزيفة، شعرت به كما لو كان يبحث عن اطفاء شبق مزمن دسه الاله في مخلوقاته المخادعة الهزيلة.

- ستكون لوحة رائعة !

هي تعرف جيدا الفخاخ التافهة التي وضعت في طريقها، منذ الخطوة الأولى التي وضعت فيها قدمها لتسلك ممر الرذيلة، ولكنها كما يحدث للجميع، عندما يقشط الوقت بلادتهم بحكمة الاحتراف الذي يكشف الدسائس التي تفخخ طريقها كلما توغلت أبعد في محترفها، ها هي كمحترفة تستطيع اكتشاف الاباطيل التي تعترض حياتها، إلا انها ستمرر رواياته بغباء متعمد وهو يسرد قصته ملوحا بذراعيه، ما الذي يربطها به غير عقد مدفوع الأجر لا يتطلب منها سوى أن  تتصلب عارية في كرسي خيزران بلا مسند ظهر، يجعل منها موديلا عاريا للوحته، بصريرها المعدني، أيقظت الهواء الراكد بتيارات خفيفة ما أن بدأت ريشات المروحة المعلقة في سقف الغرفة تدور ببطء.

في ممر الطابق الثالث والأخير، هناك لمبة وحيدة تضيء الممر نصف المعتم بضوئها الشاحب، لا أحد من رواد هذا الجزء المهمل من الخليقة، فطن إلى اللمبة الكهربائية، بفتيلتها التي تتوهج بضوء أصفر فاقع، باستثناء الرجل الثلاثيني المتجهم الغامض، بأرديته الفضفاضة واوشحته الملونة، التي يلف بها عنقه، بقامته الطويلة وتقاطيع وجهه الحادة، مستأجر الغرفة السرية او الصومعة، كما يحلو له تسميتها، التي شهدت طوال سنوات إقامة الممرضة المتمرسة، جولييت*، ليس بالضرورة أن نرهق أنفسنا في البحث عن تحدر جولييت أو حتى تحري أصول الأسماء التي ترد هنا، أغلب الاشياء هنا تشبه اغلب الاشياء هناك، الاشياء التي تراها أنت حقيقية قد تبدو غير ذلك لرجل في مكان آخر، إنها الحياة السرية، التي مضت بين جدران غرف وممرات هذا المبنى المعتم، فـ اسم جولييت، كغيره من الأسماء والألقاب في هذه البناية، غالبا اما مزيف او مستعار او لاوجود له باستثناء ذاكرة البعض الذين تقطعت بهم السبل، جولييت الجميلة جدا، التي امضت سنوات شبابها في مستشفى القديس بطرس، المستشفى التي شيدها الآباء الأرثوذوكس الأوائل بعد وباء الكوليرا الذي حصد الاف الضحايا، غادرت أجنحتها الفخمة ناصعة البياض، لتمارس عملها كمخلصة من لعنة الفضائح التي قد تلحق ببعضهن، كانت في نهاية الاربعينيات من عمرها، تمتعت بجمال حسناوات السينما، أنها المتمرسة في مهنتها، التي أخضعت نساء عديدات تحت مبضعها السلكي الرفيع، نساء عازبات كما اخضعت راقصات ملاهي بغداد وفتيات قرويات عملن خادمات في بيوتات أثرياء، اخضعتهم لكفها الناعم الذي تتسلل بخفة ونعومة أفعى، في الرحم المستفز المليء باللزوجة لتنتزع سره، اضطجعت على طاولتها الصلبة بغطائها البلاستيكي ناصع البياض، الكثير من مومسات شارع النهر، كن مستسلمات ووديعات وصامتات، تحت نظرات جولييت، التي انشغلت بانتزاع أجنة لم تتشكل ملامحها بعد، كانت، المخلص المنقذ، التي  تتلذذ بأعمالها المكتملة، احتفظت ببعض الأجنة التي تشكلت ملامحها في آنية زجاجية مليئة بالكحول النقي وجدت طريقها لتستقر على طاولة بلون البلوط الابيض، كما احتفظت بقنينة كحول، كطقس مقدس، كانت تعمد إلى تناول ثلاثة كؤوس صغيرة من الكحول بعد أن تنجز مهمتها في انقاذ زبوناتها من الفضيحة، كما تستخدمه كمطهر للجروح الشنيعة، التي تحدثها في الأعضاء التناسلية لضحايا اللذة المحرمة. 

انتهت سيرة جولييت بالهجرة إلى ديترويت في منتصف الستينيات، بعد أن أخفقت في انقاذ  الفتاة الجميلة الصغيرة التي لم تبلغ بعد عامها الخامس عشر التي شعرت بآلام الحمل، بعد معاشرة غير شرعية، كانت فيها ضحية خداع قريبتها القوادة التي حاولت طمر الفضيحة، لأنها كانت شريكة في خداع الطفلة التي ماتت لاحقا بسبب التهاب الرحم بعد الجرح الذي أحدثته جولييت بسلكها النابضي حين فاجأتها الصبية بانتفاضاتها بسبب ألم الوخزات، حينما كانت تحاول قشط الثؤلول بملقطها الطويل الذي دسته عبر مهبلها.

انها سيرة الصومعة السرية بكل تاريخها المدنس واجنتها والدماء التي ساحت على طاولتها الصلبة بغطائها البلاستيكي الأبيض، إنها الغرفة نفسها التي تشغل نهاية ممر الطابق الثالث.

 بمقابل بخس استأجر الغرفة، التي عانت النحس لسنوات طويلة، وكيل البناية، الرجل المسن الذي يرتدي بدلة قديمة بلون الغبار، لاحت على وجهه المجعد الشاحب ابتسامة هزيلة على شفاه مجعدة، وهو يعد دفعة الأيجار الأولى كما لو كان يتلقى هبة، الغرفة التي تحولت فيما بعد إلى ستوديو لرسم النساء العاريات، المومسات المتمرسات اللواتي يحترفن الاغواء في قلب المفترق والتقاطع الذي يفضي إلى شارع النهر عبر شارع المال، هناك ستطالعك ببواباتها القديمة بناية المحكمة الشرعية التي أقيمت على وقف سيدة محسنة تتحدر من أصول عثمانيَّة سلطانيّة،  بعد موتها تحول الوقف الخيري إلى مقبرة وجامع صغير اقيم على حديقة الفناء الخلفي، الواجهة التي تطل على ضفاف دجلة، هناك تنتشر أقبية السحرة والعرافين، الذين يقرأون الطالع بتقاطع مدارات الكواكب للإيقاع بالمطلقات اللواتي أرهقتهن العزلة والوحدة، نساء  يبحثن عن سحر أسود للفتك بزوجات عشاقهن، عجائز متصابيات، رجال يتوسلون بزيت الأفاعي ومسحوق غبار العقارب لإنقاذ رجولتهم الغابرة، نساء يبحثن عن توبة مفقودة في مدينة الذنوب، إنه شارع الذهب واللذة الذي لا يبعد سوى خطوات معدودة عن صومعته السرية، يخيل إليه في الليالي يطل فيها قمر مكتمل الاستدارة بوجه مجدور، إنه يسمع ثغاء ناعم لحملين وجداء صغيرة و أجنة تزحف غير مكتملة النمو، إنه ارث الممرضة جولييت الجميلة التي أجهضت الأجنة المحرمة طوال عقد من تاريخها العريق، في عمارة المفتي، التي تضم مكاتب محامين مخضرمين يقضون وقتهم باحتساء العرق وتبادل النكات الفاحشة مع طبيب أمراض تناسلية، يمكن عده الوريث الشرعي للتاريخ الذي سطرته جولييت الغابرة وطبيب آخر للقلب ومكاتب إخراج جمركي، إنه الممر نصف المعتم، الذي يتلقى مساقط ضوء شمس الظهيرة، عندما يتسلل عبر نوافذ العلية التي تحتضن السلالم الخرسانية المتآكلة، مساقط الضوء الخافت التي تزحف ببطء في منتصف الممر وتتسلق الجدران الرمادية فتضيء المكان بضوء شاحب حتى تختفي عند انزلاق شمس الظهيرة في الساعة الثانية بعد الظهر، في حقيقته، يبدو الممر قبوا طويلاً ضيقا، بسقفه الواطئ كالملاجئ التي شيدت خلال الحرب العالمية الثانية، أكثر منه ممرا مظلما يشطر المكان إلى نصفين، تطل على الممر الضيق أبواب غرف الطابق الثالث والأخير، في منتصف الممر تواجهك السلالم التي تقودك إلى السطح المهجور، في أحد جوانب السطح ستجد بقايا «موتور سيكل» بريطاني من بقايا الحرب الثانية، هناك صناديق خشب لحفظ الذخيرة مدموغة بأرقام وأحرف انكليزية، أسرة حديدية نخرها الصدأ، إنها الذاكرة المهملة للمبنى الذي شيد في نهاية الاربعينيات، أي شخص يدخل بطن هذا الحوت الهامد، المجبول بالآجر والكلس وأعمدة الخرسانة التي أخذت تتفتت، المبنى الذي يختنق بالرطوبة والعفن الاخضر الذي تسلق حافات جدرانه التي طلست بطلاء دهني سميك ببياض يميل إلى الأصفرار، يستطيع  قراءة تاريخ تشييد هذه البناية القديمة بطوابقها الثلاثة، في لوحة التعريف التي ستلفت انتباهه، لأنها ستبدو كما لو كانت كائنا حيا في نزعه الاخير، بعد أن تدلت في الهواء وهي تتشبث بأحد طرفيها بمسمار واحد «عمارة المفتي شيدت عام 1939». 

* الأسماء كما الأحداث التي ترد هنا غير حقيقية.