الثَّقافةُ الرمزيَّةُ في الحياة

ثقافة 2023/11/14
...

  ناجح المعموري

العقل بؤرة رحمية تتوالد منه كل الأفكار والمشاعر الإنسانية وأيضا هو «الواقع» الفضاء المنتج للثقافة.. وفي هذا الرأي تماثل مع توصلات المفكر ارنست كاسيرر التي أدت إلى تمركز في الحضارة الإنسانية التي هي أوسع مدلولا من العقل الخالص. وأعتبرها كاسيرر أكثر افضاء من العقل الذي هو مفرد، وفرع من الفروع الكثيرة، والحضارة هي المحيط المستوعب لكل مجالات الإنسان والمساعدة له على التبلور والاتضاح. وأهم وسيلة بذلك هو الرمز/ الرموز «أن العقل الاجتماعي يغرق كلياً وبثبات في الرمزية أو حين نقول بأنه يعتمد على رموز متعددة المظاهر والأشكال، وينشط أو يتحول إلى أنواع مختلفة من الرموز، بل يمكننا القول أن العقل الإنساني اجتماعي لأنه رمزي. الرمزية بنية ضرورية للفعل الاجتماعي من أهم مكوناته الرمزية.

ويلاحظ هذا الرأي الأكثر تحديداً من مقولات ارنست كاسيرر الخاصة بكليات الحضارة وتنوعات عناصرها، وقد اعتمد التحديد الدقيق والحصري للواقع الاجتماعي الفاعل في تحفيزاته من أجل أن يتمظهر الفاعل الاجتماعي من خلال الرموز، وهي وحدها الكفيلة للتعريف به. وعلى الرغم من هذا التجريد الحصري، فأن الرأيين يشكلان فضاء واحداً، وإن كانت الحضارة الإنسانية هي الفضاء الأوسع، وهي الإطار، مثلما هو البؤرة، بمعنى هي المقولة الكبرى والقادرة على التعريف بكل ما أنتجه الإنسان من ثقافات متنوعة وعلوم إنسانية وعلوم تطبيقية، وكل ما له علاقة بحياة الإنسان والجماعات، هي بتركيز شديد ارستقراطية الثقافة بالإضافة إلى الثقافة الشعبية. 

وارتباطاً مع كل هذه الآراء والمفاهيم في الرمز ودلالته بالعلاقة مع الكائن الاجتماعي، المنتج له ، وبه ومعه اندفع الكائن بحماس إلى محيطه الإنساني من أجل التعريف بجهوده الإنسانية الخلاقة، وكان من ضمنها الرمز وشبكاته الرمزية الكثيرة جداً، والتي هي أوسع مما نتصور، لأن المباحث المتنوعة أضفت تصورات غفيرة وجديدة على الثقافة كمفهوم انثربولوجي، ولم تعد الثقافة محصورة بالآراء والتعريفات التقليدية والمعروفة لنا، وانفتحت الثقافة أمام الكشوف العملية والانثربولوجية، حيث توصل العديد من العلماء المتخصصين بمفهوم الثقافة إلى أن التوصلات الآثارية منحت العلوم الإنسانية توصلات عن حياة الأفراد والجماعات في العصر الحجري القديم وأفادت أن كل ما كان موجوداً في تلك المراحل المبكرة من تاريخ الحضارة الإنسانية هو عبارة عن ثقافة رمزية.

أكدت على أن الثقافة الرمزية هي السائدة والحاضرة آنذاك هي الفاعلة في دور الجماعات القديمة وهي الأصول البدئية المساهمة في تكوين ثقافة الرمز، والحياة الاجتماعية، والانجذاب الجنسي نحو الآخر، وسحر الجمال وسيلة الإنشاء الفني. وتكاد هذه الدراسات تنفق تماماً على أن الحياة هي مجموعة هائلة من الرموز، والثقافة الرمزية هي وحدها الموجودة، والفروق هي لدى الإنسان، ولها صلة بوعيه واطلاعه على ما هو جديد في الثقافة/ المعرفة/ الفلسفة التي أضاءت المخفي وأعلنت عن جديدها في محيط الثقافة. وهذا يعني للقارئ أن الرمزية وشيوعها واتساع مساحتها، تعني كلية الثقافة الرمزية في الحياة بغض النظر عن مكونات الجماعات الإنسانية وتباينها واختلافها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. والجماعات البشرية متباينة الثقافة، لا تختلف عن نظير يتمتع بمعرفة عالية. كلاهما يشترك في فضاء، متماثل لإنتاج الثقافة الرمزية وقبولها من قبل الآخرين وتداولها، بحيث تصبح جزءاً من فضاء الثقافة السائدة.

تفتح الثقافة الرمزية لنا مجالاً واسعاً للتعرف على أن الشبكات الرمزية هي مكونات سرية للجمال الذي يفضي إلى الفن هذا الدرس الانثربولوجي المهم الذي ساهم بتطور الثقافة والكشف عن مكوناتها. وهذا يعني بالمحصلة الأخيرة أن الرموز/ مفردات/ لغة/ قائمة في الفنون، وتفتح أمامنا مسلكاً لمعرفة المشترك بين اللغة/ الفن أنهما متداخلان والفن باقٍ ومتعالي الجمال بلغته الرمزية وقد اعترف كاسيرر بالعلاقة بين اللغة والفن، لكنه كان مع هذا حريصاً كعادته على تحديد أوجه الفروق بين اللغة والفن، وعلى هذا الأساس استطاع أن يفضي إلى الخاصية المميزة لكل منهما. فإذا كان كروتشه قد وجد بين اللغة والفن، وأكد التطابق بينهما عندما أوضح أن من يدرس مشكلات اللغة فهو أيضا يدرس مشكلات جمالية، فان كاسيرر استطاع التمييز بينهما وتحديد مجال كل منهما، وقال في هذا المجال قد نعرف الفن بأنه لغة رمزية، ولكن هذا يدعنا في نطاق الجنس المشترك لا في الفارق النوعي. ويبدو أن الاهتمام بالجنس المشترك هو السائد في علم الجمال الحديث إلى حد أنه يطمس الفارق النوعي. 

وضعت الفلسفة والعلوم الإنسانية اللغة كمفهوم عام وغير محدد، يعني هذا أنها -الرموز/ الشفرات/ العلامات/ هي العالم، المحيط الذي تتواجد فيه الجماعات وتتحاور بالطريقة التي تجعل الحوار مفهوماً. والعالم هو المركز الأساس في فلسفة غادامير، وكذلك جعل من الفهم محوراً جوهرياً وهو الفهم ـ الذي لم يكن مجرد فعل، أو فعالية عرضية، أو أقامة العلامات التي من خلالها أرسل إرادتي إلى الآخرين، إنه بلوغ الفهم بحد ذاته لا يحتاج، في الحقيقة، إلى أية وسيلة بالمعنى الدقيق للكلمة أنها عملية في الحياة يحقق فيها مجتمع ما حياته واقعياً، وإلى هذا الحد، لا يختلف بلوغ الفهم من خلال محادثة إنسانية عن الفهم الذي يحدث بين الحيوانات. ولكن يجب النظر إلى اللغة الإنسانية كعملية في الحياة، خاصة وفريدة ما دام العالم يتكشف في التواصل اللغوي ويضع بلوغ الفهم في اللغة موضوعاً أمام أولئك الذين يمارسون التواصل مثل قضية مطروحة للنقاش

بينهم.  وما دام الفهم الأساس في العالم وهو المركز الدال على الحوار مع المحيط والقبول بالتواصل كما قال غادامير فان الرموز توفر للإنسان أو الجماعات فرص التبادل والتوفر على معرفة المحيط/ العالم ما دامت الرموز وشبكاتها حاضرة وماثلة في حياة الأفراد والجماعات. وروج أكثر من باحث ولادة العقل الإغريقي بوقت مبكر جداً ولم يشر الى التأثيرات المجاورة من مصر وسوريا. ولم يذكر احدهم أن أثينا سوداء، وبسبب هذا الحماس المتطرف تضمن ذاك الرأي للباحثة أديت هاملتون المحاولات لإنقاذ الجذور الإغريقية من اللغو والحشو الذي عرفته الأساطير الكثيرة. ولهذا أسباب عديدة، ولكن أهمها في حصول ذلك هو (مسيرة التناقل الشفاهي، أي عبر سلسلة الرواة التي لا تتوقف، سوف يحصل تص آدم بين المستويات الاحتمالية، ما يسبب تهافتها الذي ينتج تدريجياً من داخل كتلة الخطاب ما يمكن تسميته «الأجزاء الشفافة» أي ما يمنح القصبة التراثية بنية اشد انتظاما، أو ما يسبغ على الحكاية) بعداً رمزياً أكبر. 

يلخص ليفي شتراوس ذلك بقوله «إن الأعمال الشخصية هي كلها أساطير القوة، ولكن تبنيها على الصعيد الجماعي هو الذي يحدد بعدها الأسطوري عند الضرورة». وتحفظ العديد من الباحثين حول الأساطير الإغريقية التي فرزها لانغ إلى قسمين، عقلاني ولا عقلاني وأجمعت الآراء التي سجلت تحفظاتها على الأساطير من أن الرواة هم السبب بالإضافة المغالية، فلم تكن الملحمة الهوميروسية تحكي عن مجتمع حقيقي يعج بالنشاط بين القرنين العاشر والتاسع، ولكنه لا يزال منقسماً في عالم قد تكون الميثولوجيا هي فكرة المشترك الوحيد، فأن فينلي يجد نفسه مجبراً على تعريف وضع هوميروس بعبارات تتسم بالرقابة والتماسك في الوقت نفسه. 

إن شاعر الاوديسة والإلياذة هو رواية أساطير وملاحم وهو عند الخط الفاصل نضج الميثولوجية التام «نشاط اجتماعي ذو مستوى عال» ولكنه ينتج حكايات لا تكف عن التحول، وفترة النقد الصارم التي افتتحها هيرودوتس البطل المؤسس للتاريخ. أن هوميروس وملحمته يمثلان المرحلة الأولى في تاريخ الرقابة التي فرضها اليونان على أساطيرها.

يرشح هذا الرأي المطول عن تمجيد كامل للعقل الإغريقي ووضعه في مكانة خاصة به، بمعنى يفضي هذا الإعجاب المفرط إلى الإعلان عن مميزات خاصة ببلاد الإغريق التي صارت مركزاً للعالم وهي الوحيدة المنتجة للفكر والفلسفة وتم إلغاء الدور البارز لبلدان الشرق ودورهما في أنتاج الفكر والمعرفة ولن أتوسع بإيراد النماذج الدالة على ما قلت، لكني سأشير إلى مصدرين بارزين في هذا المجال وهما «المعتقدات الدينية لدى الشعوب، والفكر الشرقي القديم» الأول للباحث جفري بارندر والثاني لجون كولر الأول ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، أما الثاني بترجمة كامل يوسف حسين. كشفاً عن انشغالات فكرية واسعة وفلسفية في الشرق وليس بلاد الإغريق مثل ما أراد الدرس الغربي. واتسع جفري بارندر في متابعة ذلك في بلاد ما بين النهرين/ مصر/ اليونان القديمة ورما القديمة وإيران، الهند/ الصين.

أما الكتاب الثاني، فقد ذهب جون كولر أبعد كثيراً في تقديم كشوفات واضحة وصريحة حول العقل النقدي ونتاجاته الفلسفية ودرس ذلك -الفلسفة- في الديانة الهندوسية وافرد فعلاً خاصة بالفلسفة الهندية وقرأ بدقة متناهية الفيدا والأوبا نيشاد واعادة تفصيل شخصيات إلهية معروفة مثل فيشو وشيفا وكاتي.

كل هذا والدرس الاستشراقي يغالي في تجهيله للشرق والسعي إلى جعل بلاد الإغريق مركز العالم والحياة. لكننا لا نختلف مع مارسيل ديتيان عندما قال إن الإنسان ساهم بثورة حقيقية ببلاد الإغريق، ولأول مرة في التاريخ وعى الإنسان ذاته وعياً كاملاً. لأن الإغريق تخيلوا إلهتهم على صورتهم هم.

ونستطيع الاشارة إلى أن المرويات الشفاهية ليست ثابتة ولم تعرف البقاء على شكل أو شفاهية واحدة وإنما كانت خاضعة لسيرورة مستمرة وتحول واضح في الأساطير. هذا سبب والثاني تنوع الرواة، على الرغم من مكانتهم الشهيرة والمعروفة على نطاق واسع، ليس في بلاد الإغريق وإنما في العالم. أن الحيوان الرمزي أو الإنسان المتخيل الذي يبحث عن ذاته ويتعرف إليها في كتب الأساطير ـ المحلية أو الأجنبية ـ ما هو بغريب أبدا عن التفسيرات الفطرية حيناً والمتقنة حيناً أخر، والتي يفرضها على مسامعه هواة لا ينشدون الكثير أو علماء أساطير مشهورون بغزارة معارفهم كما قال مارسيل ديتيان. وتظل الأساطير خاضعة بقوة إلى التباين الموجود بين الرواة مع كل الخبرة والمهارة المميزة لهم. من هنا لابد من أن تواجه الأسطورة خلخلة مستمرة، بمعنى استجابتها للصراع الثقافي/ الاجتماعي وتستجيب للتحولات والإضافة.