لوسيتانيا.. أدخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى
بانوراما
2019/05/13
+A
-A
ترجمة: مي اسماعيل
في السابع من أيار سنة 1915، وبعد أقل من عام على نشوب الحرب العالمية الأولى في أوروبا؛ أغرقت احدى الغواصات الألمانية (بالطوربيد) السفينة “ر.م.س. لوسيتانيا- RMS Lusitania” وهي عابرة محيطات بريطانية، كانت في طريقها من نيويورك الى ليفربول. ومن بين أكثر من 1900 مسافر (مع الطاقم) على متنها؛ هلك أكثر من 1100، بينهم نحو 120 أميركيا. ورغم أن سنتين بعد هذا التاريخ ستمر قبل أن تدخل الولايات المتحدة الحرب رسميا؛ فان إغراق لوسيتانيا لعب دورا مهماً في تحويل الرأي العام ضد ألمانيا، داخل الولايات المتحدة وخارجها.
حينما وقعت الحرب العالمية الأولى سنة 1914؛ تعهد الرئيس الأميركي حينذاك “وودرو ويلسون”
(1856 - 1924) بإلتزام الحياد؛ وهو قرار حبذته غالبية الشعب الأميركي. لكن بريطانيا كانت واحدة من أقرب الشركاء التجاريين لأميركا. وسرعان ما اشتد التوتر بين الولايات المتحدة وألمانيا حول محاولة الأخيرة عزل الجزر البريطانية. تضررت الكثير من السفن الأميركية المسافرة الى بريطانيا أو أُغرقت بالألغام الألمانية، وبحلول شباط من سنة 1915 أعلنت ألمانيا شن حرب غواصات غير مقيدة في المياه المحيطة ببريطانيا. وعند مطلع شهر أيار 1915 نشرت عدة صحف في نيويورك تحذيرات من السفارة الألمانية لدى واشنطن أن على الأميركان المسافرين على متن سفن بريطانية أو تابعة للحلفاء ضمن محيط مناطق العمليات الحربية تحمل التبعات بأنفسهم. نُشر هذا التحذير على الصفحة ذاتها التي ظهر فيها اعلان إبحار السفينة لوسيتانيا الوشيك من نيويورك عائدة الى ليفربول. وبعد حوادث الإغراق المتكررة لسفن تجارية عند السواحل الجنوبية لأيرلندا قامت البحرية البرطانية بتحذير لوسيتانيا لتفادي تلك المنطقة أو القيام بمناورات التمويه البسيطة؛ مثل الإبحار بشكل متعرج لإرباك الغواصات التي تتابع سيرها.
تجاهل التحذير
تجاهل قبطان لوسيتانيا توجيهات البحرية البريطانية؛ وفي الساعة الثانية واثنتي عشرة دقيقة من بعد ظهر يوم 15 أيار أصاب طوربيد متفجر السفينة التي تزن 32 ألف طن من جانبها الأيمن. تلا انفجار الطوربيد انفجار أكبر؛ كان على الأرجح انفجار مراجل السفينة.. فغرقت السفينة جنوبي سواحل ايرلندا خلال أقل من عشرين دقيقة. جرى الكشف لاحقا أن لوسيتانيا كانت تحمل نحو 137 طنا من الذخائر الحربية الى بريطانيا؛ وهو أمر استشهد به الألمان لزيادة المبررات للهجوم عليها. احتجت الولايات المتحدة على الهجوم واعتذرت ألمانيا عنه؛ وتعهدت بإنهاء حرب الغواصات غير المقيدة. لكن غواصة ألمانية أغرقت خلال شهر تشرين الثاني من السنة ذاتها سفينة ايطالية من دون توجيه تحذير، ومات فيها أكثر من 270 شخصا؛ بضمنهم أكثر من 25 أميركيا. فبدأ الرأي العام داخل الولايات بالتغير ضد ألمانيا.. من دون رجعة.
أعلنت ألمانيا استئنافها أعمال الحرب غير المقيدة في البحار يوم 31 كاون الثاني من سنة 1917، عازمة على الانتصار بحربها ضد الحلفاء؛ وبعد هذا التاريخ بثلاثة أيام قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا. وأعقبها بساعات قلائل اغراق سفينة “هاوساتونيك” الأميركية من قبل غواصة ألمانية. وجاء يوم الثاني والعشرين من شباط 1917 ليقر الكونغرس مشروع قانون مخصصات الأسلحة بقيمة 250 مليون دولار يهدف لإعداد الولايات المتحدة للحرب. انتهت الأيام الاخيرة لشهر آذار باغرق ألمانيا لمزيد من السفن التجارية الأميركية؛ فوقف الرئيس ويلسون يوم 2 نيسان أمام الكونغرس ودعا لإعلان الحرب على ألمانيا. وبعدها بيومين صوت الكونغرس بالموافقة على اعلان الحرب؛ ووافق مجلس النواب على القرار بعد يومين.. وبذا دخلت أميركا الحرب العالمية الأولى.
أسرع عابرة محيطات
كانت السفينة لوسيتانيا قد دشنت رحلاتها سنة 1907، وكانت (يوم غرقت) قد سجلت رحلتها المرقمة 101، عائدة الى بريطانيا عبر الأطلسي. وتعد لوسيتانيا ملكا لشركة “كانارد لاين”، المسجلة في ليفربول.فقد بنتها شركة “جون براون وشركاءه، كلايد بانك- اسكتلندا”؛ وجرى اطلاقها الى البحر في السابع من حزيران سنة 1906. وبلغ طولها نحو 240 مترا وفاق ارتفاعها 18 مترا. كان فيها تسعة طوابق للمسافرين، وسرعتها نحو 46 كم/ ساعة، وعدد أفراد طاقمها = 850. كانت لوسيتانيا حين اكتمل بناؤها أسرع عابرة محيطات على مستوى العالم وأكبر سفينة للركاب؛ حتى انتهى بناء اختها التوأم- “موريتانيا” بعد ثلاثة أشهر.
أطلقت لوسيتانيا الى البحر خلال حقبة تميزت بالمنافسة الحامية على مسارات التجارة شمال المحيط الأطلسي. كانت خطوط السفن الألمانية تمثل منافسا شرسا لنقل الركاب بداية القرن العشرين؛ ولمواجهة تلك المنافسة استجابت شركة “كاناردلاين” لتقديم سفينة تفوقهم من حيث السرعة والحجم ومعايير الفخامة. استعانت الشركة بالبحرية البريطانية لبناء لوسيتانيا؛ واضعة بالاعتبار امكانية وضع تلك السفينة قيد الاستخدام التجاري الخفيف والسريع اثناء وقت الحرب. فقد وضعت أماكن لتركيب مدفعية على سطحها؛ رغم أن تلك المدفعية لم يجر تركيبها أبدا.
جهزت السفينتان لوسيتانيا وموريتانا بمحركات توربينية جديدة ثورية الأداء؛ مكنتهما من الابحار بسرعة 25 عقدة (46 كم/ ساعة). كذلك جهزتا بالمصاعد وخدمات التلغراف والاضاءة الكهربائية، ووفرتا مساحات لاقامة المسافرين بنحو خمسين بالمئة أكثر من أي سفينة اخرى؛ واشتهر سطح الدرجة الأولى بثراء مفروشاته وفخامتها.
حاصرت البحرية الملكية البريطانية ألمانيا مع بدء الحرب العالمية الأولى؛ وأعلنت بريطانيا منتصف خريف سنة 1914 أن منطقة بحر الشمال بكاملها منطقة عمليات حربية ولغّمت مقترباتها. وبحلول ربيع العام 1915 أعلنت أن جميع واردات الغذاء الى ألمانيا ممنوعة. حينما غادرت لوسيتانيا ميناء نيويورك في الأول من أيار 1915 متوجهة الى بريطانيا، كانت حرب الغواصات الألمانية تشتد على المحيط الأطلسي؛ وأعلنت ألمانيا أن
جميع المياه المحيطة بالجزر البريطانية كانت مناطق عمليات عسكرية. ولهذا الغرض نشرت السفارة الألمانية لدى الولايات المتحدة تحذيرا للمسافرين عن مخاطر السفر على متن السفينة لوسيتانيا.
اعتراف متأخر
بعد اصابة لوسيتانيا بالطوربيد الألماني يوم السابع من أيار سنة 1915 وقع انفجار كبير؛ تلاه انفجار داخلي آخر عزاه البعض الى حمولة من الذخائر الحربية كانت السفينة تنقلها. وارسلها الانفجاران الى القاع خلال 18 دقيقة فقط.. برر الألمان اعتبارهم السفينة لوسيتانيا إحدى قطع البحرية البريطانية وبالتالي هجومهم عليها بأنها كانت تنقل مئات الأطنان من الذخائر الحربية؛ ولذا اعتبروها هدفا عسكريا مشروعا. وجادلوا أن السفن التجارية البريطانية خرقت، منذ بدء الحرب، “قواعد كروزر (the Cruiser Rules)، وهي عبارة عامة تشير إلى الاتفاقيات المتعلقة بمهاجمة سفينة تجارية بواسطة سفينة مسلحة.
بحلول سنة 1915 كانت قواعد كروزر قد عفا عليها الزمن؛ وخلال تلك السنة ابتكر البريطانيون سفن “Q” وفيها مدافع مختبئة على السطح؛ فازداد الخطر على الغواصات الألمانية أثناء ارتفاعها فوق مستوى الماء وتوجيهها انذارا للسفن التجارية. جرى إعداد لوسيتانيا لتحمل مثل تلك المدافع؛ لكنها لم تكن تحملها حين اغراقها. نقلت لوسيتانيا بانتظام شحنات من الذخائر الحربية، وعملت تحت سيطرة القوة البحرية البريطانية؛ وكان بالإمكان تحويرها لتصير سفينة إسناد مسلحة تشارك ضمن الجهد الحربي. جرى التمويه على هوية لوسيتانيا ولم تحمل علما؛ فكانت سفينة غير محايدة داخل منطقة حرب معلنة، وكانت أوامرها تقضي بتفادي الوقوع تحت قبضة العدو ودفع الغواصات المتحدية. ومع ذلك كانت لوسيتانيا غير مسلحة فعليا وكانت تحمل آلاف المسافرين المدنيين؛ ولذا اتهمت الحكومة البريطانية الألمان بخرق قواعد كروزر. تسبب إغراق لوسيتانيا بعاصفة من الإحتجاجات داخل الولايات المتحدة؛ لأن 128 مواطنا أميركيا كانوا من بين الضحايا. واسهم ذلك بتغير الرأي العام ضد ألمانيا وقاد لدخول أميركا الحرب بعد نحو سنتين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تمسكت الحكومات البريطانية المتعاقبة برواية أن لوسيتانيا لم تكن تحمل ذخائر عسكرية، وأن الألمان لم يكونوا محقين في معاملتها كقطعة عسكرية. وأخيرا اعترف رئيس مكتب أميركا الشمالية لدى الخارجية البريطانية سنة 1982 أن كمية كبيرة من الذخيرة كانت ضمن حطام لوسيتانيا؛ والتي لا يزال بعضها يحمل خطورة عالية على فرق الانتشال!
• موقع “هستوري”،
موسوعة “ويكبيديا”