لماذا لم ينتج العراق مشاريعه النهضويَّة؟

ثقافة 2023/11/15
...

 البصرة: صفاء ذياب

 لم يكن مطلع القرن العشرين وقتاً مناسباً لانطلاق الحياة الفنية والأدبية عراقياً، على الرغم من البدايات التي برزت على يد عبد القادر الرسّام وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي، وغيرهم القليل، غير أنَّ دخول العراق في حروب متتالية، ابتداءً من الحرب العالمية الأولى، ومن بعدها الثانية، ودخول بريطانيا العراق في حرب شرسة مع بقايا الدولة العثمانية، أربك أيّ تحرّكات نهضوية حينها، في الوقت الذي انطلقت فيه حركة النهضة العربية من حلب في سوريا وطرابلس في لبنان والقاهرة في مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر.

كان من الممكن أن يكون العراق منطلقاً لحركات نهضوية عدّة، مثلما انطلقت في أوروبا مع بدايات  القرن العشرين، مروراً بثلاثينياته وخمسينياته، لتظهر حركات عدّة مناهضة للحرب وردّاً عليها، أمثال الدادائية والسريالية والهيبز والعدمية والوجودية وغيرها من المدارس الفنية والأدبية والفكرية. فأسهمت الحروب الكبرى في أوروبا وأميركا بخروج مدارس فنية كبيرة ما زال تأثيرها قائماً حتّى الآن، في حين أنَّ حروبنا الكثيرة لم تتمكّن من تغيير الوعي الثقافي والخروج بمدارسنا الفنية الخاصة، وبقيت ثقافتنا متلقّية لا منتجة، برغم ظهور حركة الشعر الحر على يد السيّاب والملائكة في الأربعينيات، وبروز فنّانين مثل فائق حسن وجواد سليم في الخمسينيات، وبدايات النقد الأدبي في تلك الفترة.
فما الأرضية التي سمحت لتلك الثقافات بالنهوض؟ ولماذا لم تكن أرضنا خصبةً لتشكيل تيّارات فكرية أو نقديّة أو فنّية على مدى عقود طويلة؟.
محبس الثقافة
ترى الأستاذة الدكتورة بتول قاسم أنَّ قصّة نهضتنا في العصر الحديث، هي قصّة اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب، وأنَّ العوامل الفعّالة في تكوين فكرنا الحديث، إنَّما هي نابعة من اللقاء بالحضارة الغربية، وتجمع الدراسات كلّها على أثر هذا اللقاء في قيام نهضتنا الحديثة.
مضيفةً: لقد حقّق الغرب نهضة حضارية وثقافية كبيرة وانتهى إلى مذاهب أدبية ومدارس فنّية متكاملة واكبت التطوّر التأريخي والاجتماعي لبلدانه، بما فيها الحروب التي مرت بها، التي كان لها تأثير كبير في نشأة وتكوين تلك المذاهب والمدارس الفنية التي جسّدت- لاسيَّما الرئيسة منها- الحالة المزاجية والنفسية والعاطفية لحياة مجتمعاتها. وقد تعرّف أدباؤنا ومثقّفونا على هذه المذاهب والمدارس عندما أتيح لهم اللقاء بالغرب فأخذوها عنه ونقلوها وعرّفوا بها، وهي لا تحتفظ بتتابعها الذي مرّت به في الغرب، فقد دخلت إلينا مرَّةً واحدة، لأنَّها نشأت في الغرب عن ظروف تأريخية حتّمت ظهورها، في حين نشأت عندنا نقلاً ومتابعةً. وقد وجد مثقفونا أنَّ منها ما يترجم ظروفا نفسية وتأريخية تشبه ظروفهم فأخذوها وعبّروا بها ولم يبدعوا شيئاً خاصاً بهم، بل قلّدوا ما هو جاهز واكتفوا به. وقد رصد الدارسون العوامل النفسية والاجتماعية التي ساعدت على احتضان هذه المذاهب والمدارس الأدبية والفنية ونشأتها في بلداننا، ولاحظوا أنَّها تشبه تلك الظروف التي نشأت عنها في الغرب. لقد تأثّر الأدباء والمثقّفون الذين حملوا لواء دعوة التجديد عندنا بالأدب والثقافة الغربية وسعوا إلى محاكاتهما، ودفعت نزعة التقليد للغرب وحالة الانبهار به والشعور بعقدة تفوّقه إزاء حالة تخلّفنا، إلى متابعته وعدم الخروج عن قوالبه الفكرية والثقافية، فلم يفكّر مثقّفونا بأن يأتوا بما هو جديد وفيه بصمة تعبّر عن هوّيتنا، ولم تدفع الظروف التاريخية والحروب التي مرّت على بلداننا إلى إبداع ما هو مغاير ومختلف، وهكذا حُبست ثقافتنا في نطاق المسترفَد الغريب وأصبحت صدىً له. ويجب أن لا ننسى فعل الاستعمار في ترسيخ هذه الحالة لتسيطر ثقافته وتستعمر العقول كما تستعمر البلدان.
حاضنة الإبداع
ويبين الفنان ستار كاووش أنَّ ظهور المدارس الفنّية في العالم؛ ولاسيّما في أوروبا كرد فعل مباشر على التقاليد القديمة والأزمات والحروب التي مرّ بها الكثير من البلدان، إذ أرادَ الفنّانون تمرير رسائلهم واحتجاجاتهم الجمالية. وكانت هذه المدارس والتيّارات الفنّية بمثابة تنبّؤات جديدة إن صحّت التسمية، وأعظم مثال لذلك، هي التعبيرية التي ظهرت في ألمانيا، وكانت ردّة فعل لما حدث في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى وامتدّت لفترة ما بين الحربين، حيث الخراب والدمار والتصدّع الذي حدث في أرواح الناس والثقافة والاقتصاد وفي ملامح ألمانيا كلّها بشكل خاص، والعالم بشكل عام. وهكذا صارت خطوط الفنّانين حادّة، وألوانهم صريحة وقويّة وكثيفة، وأشكالهم محرّفة كثيراً، وهذا نراه واضحاً في أعمال كريخنر وبيكمان وديكس وغروس وغيرهم الكثير. والمفارقة هي أنَّ ظهور الفن الحديث عندنا تزامن تقريباً مع توقّف ظهور المدارس الفنّية في العالم، وهكذا بدا الأمر كأنَّه لم يعد هناك داعٍ للمدارس التي- بحسب الكثيرين- عفا عليها الزمن. مع ذلك، فالظروف التي مرَّ بها العراق والمنطقة بشكل عام، كانت جديرة بخلق نسق جديد من الفن، ربَّما يبتعد حتَّى عن الفن الأوروبي، ويجد له مساراً خاصّاً، لكن، ربَّما حالت الفردية التي يتمتّع بها الفنّانون دون ذلك، فضلاً عن تشتّت الكثير من المبدعين في بقاع متباعدة وبين ثقافات مختلفة، كذلك فالفن الناجح الذي ينتج مدرسة أو اتجاها جديدا، يحتاج إلى حاضنة جيّدة وتوقيت مناسب، يقتضي مؤسّسات كبيرة تدعمه، كذلك يتطلّب عروضا مؤثّرة وتنظيرات متّسقة وأرشفة وكتبا، مع جمهور يسير بذات النسق. وفوق ذلك كلّه، هل لدينا شخصيات فنّية ملهمة مثل تلك التي أمسكت بالفوانيس وسارت أمام الفنّانين لتفتح الطريق أمامهم، كبيكاسو وكاندينسكي وبريتون؟. حين تجتمع هذه المعطيات في بوتقة واحدة، عندها تصبح لدينا طريقة تعبير مبتكرة، وربَّما تؤدّي إلى مدرسة جديدة في الفن.
أسرى الأفكار
ويشير الكاتب علي عبد الأمير عجام إلى أنَّه على الرغم من كون المدارس والاتجاهات الناهضة غربياً في فترات ما بعد الحروب، هي مدارس أدبية وفنّية على نحوٍ ظاهر، إلَّا أنَّها تستند أصلاً إلى خلفيات فكرية ومعظمها ناقدة لأسباب تلك الحروب وقيمها، ورافضة لجنرالاتها وخطاباتهم المبرّرة للتوحّش والتدمير، مثلما هي رافضة للقيم الثقافية والاجتماعية التي برّرت تلك الحروب أو تضامنت معها، وتلك الروح الناقدة والرافضة تأتي من كون الثقافة الغربية نتاجاً اجتماعيّاً مستقلاً ومحكوماً بنسبة كبيرة من الحرية.
عراقياً، وعلى امتداد حروبه الخارجية والداخلية، كان الوضع معكوساً بالكامل، فالثقافة وبعد “تأميمها” من قبل الأنظمة “الثورية” و”الوطنية” صارت خادمة مطيعة لأنظمة الحروب والعنف الكلّي، وبالتالي فنتاجها كلّه متّسق كلّياً مع خطاب المعارك المقدّسة ونيرانها والأعداء والمجد والعلياء من دون أن ننسى “روح النصر”. هذا، وجعل تراكم التجربة الثقافة عاجزة كلّياً عن أيِّ نقد وأفقدها القدرة على اجتراح أيّة فكرة تنظر للراهن المدمّر بغضب، ناهيك عن عدم قدرتها على توليد أيّة حركة فنّية وأدبيّة رافضة لقيم الحرب والدمار والعنف، ذلك أنَّ تلك القيم ما انفكّت مؤسّسة للعراق المعاصر منذ عقود ولا تزال.
وثمة من يرى؛ إذا كانت هذه هي الوقائع التي تحكم مثقفي العراق داخل البلاد، فما بال من “تحرّر” وعاش خارجها؟ والحق أنَّ هؤلاء ظلّوا بمعظمهم أسيري الأفكار والعقائد السياسية الشمولية التي تعدُّ الحروب وسياسات العنف ضرورات “وطنية” تارة و”ثورية” تارة أخرى.
ظلال القرون الوسطى
من جانبه، يوضّح الكاتب قاسم حنون، أنّه في غياب الشروط التاريخية لتحقّقها، ظلّت الحداثة العربية تخطو على أرضٍ رخوة، تعاني الخور وينتابها التردّد في اجتراح آفاق جديدة وتملّك أدواتها ومصيرها، وإذا كانت الحداثة الغربية قد أقامت مشروعها على ركائز محددة متمثلة في الثورة الصناعية التي أطلقت العنان لقوى الإنتاج وتأسيس البنى المادية لتنظيم اقتصادي اجتماعي جديد، وفي حركة الأنوار التي مهّدت للانعتاق من هيمنة الأنساق التقليدية، وفي التحوّل السياسي نحو المواطنة والمجتمع المدني متمثّلاً في الثورة الفرنسية 1789. الحداثة إذاً هي النمط الحضاري الذي بلغته أوروبا القرن التاسع عشر بفعل تطوّرات اقتصادية وسياسية وثقافية واضحة المعالم، هي الثورة الثقافية المرافقة لصعود الرأسمالية، في حين ظلّت التشكيلة العربية رهينة التغلغل الإمبريالي والاحتلال العثماني، وما كان بوسع قواها المحلّية مجابهة آليات الكبح الكولونيالي لتطوّرها الداخلي، وتميّزت بناها الاجتماعية والثقافية بالانغلاق والهجنة بسبب تواطئها مع الطبقات القديمة من إقطاعيين ومالكين عقاريين في سياق من التعايش والوئام، فاستحال عليها إنجاز قطيعتها مع الماضي، وظلّت النخب المسيطرة تتعكّز على (المتخيّل التراثي). وتبعاً لذلك، فإنَّها تلجأ إلى دهاليز القرون الغابرة لمواجهة أسئلة الحاضر وإشكاليات التحديث، ولعلّنا نقدّم هنا تعليلاً لانبعاث الأصولية الدينية بعد الهزائم المتكرّرة والحروب التي جرت في العراق ومحاور الصراع العربي الإسرائيلي، ليس العجز كامناً في العقل العربي كما يزعم مستشرقون، بل في خصوصية التجربة الكولونيالية التي أضاعت فرصاً للنهوض واللحاق بركب الأمم المتقدمة، وما كان لها القدرة على إنتاج مدارس فكرية أو مذاهب أدبية وفنّية، أو أن تنهض من رقدة القرون على نحوٍ خلاق، وهنا ينبغي التمييز بين الحداثة والمعاصرة، فالحداثة سياق مادي تشكّل في ظروف تاريخية معيّنة، بينما المعاصرة قد تعني المشاركة السلبية لأطراف ما برحت في ظلال القرون الوسطى، وأنَّ امتلاك تطبيقات التكنولوجيا ومنتجات الحداثة المادية لا يعني اندراجها في ركب الحداثة.
 حلقة أسئلة
ويعتقد الشاعر نصير الشيخ بأَّن الخزين الثقافي الذي امتلكته أوروبا، مع العمق الفكري والفلسفي الذي ورثته منذ عصر النهضة وعصور التنوير، ساعد في مدِّ نسوغ التواصل وبعث روح الفن كمعادل موضوعي للخراب، ومن ثمَّ تكييف قدرة الفرد على ابتكار لغة تعيد بهاء حياة يريدها، فكان الفن هو اللغة الأسمى بإشاريتها ورمزيّتها وأشكالها المغايرة، وبالتالي إشاعة حقول لغرسٍ جديد ومحدث وحيّ فوق أرض الرماد، وأضحت معسكرات الجيوش متاحف، واسطبلات العسكر أروقة ضاجّة باللون والضوء والابتكار..
من هنا كان فن الرسم، ثمَّ مجاورة الفنون الأخرى، “نشاطاً تخليقياً استدعى وعياً بديلاً” لبعث قيم أكثر جدّة تعرّي ثيم الحرب وبشاعتها، وبالتالي إحداث نقلة نوعية في قابلية التلقّي البصري وتأثيره الوجداني. على العكس من مجتمعاتنا الراكسة في غيبوبتها بفعل قرون الحكم تحت السلطة العثمانية التي وظّفت الفن- العمارة وتشييد المباني والجوامع- لصالح منطلقاتها السياسية والتوسعية، من دون منح حرّية متفرّدة لذات الفنان أو الجماعات لتأسيس خطابات إبداعية. وإذا كانت أوروبا قد عانت من ويلات حربين كونيتين في القرن العشرين، أضحى البحث عن نتائج فيها منتمياً للماضي ممزوجاً بألم ساشع.
لكنَّ السؤال ينهض مجدداً: كيف تتمكن هذه الفجائع وعمقها الرمادي من استيلاد تجارب ثرّة في حقل الفن، وتحوّل لسع الشظايا وهدير المدافع وعصف القاذفات في هدنتها وتخوم انتهائها، إلى مرافئ آمنة لتيّارات فنّية ومدارس رسم في التشكيل.