حينما تصبح الحكاية تميمة تحمي العاشقات
أحمد رجب شلتوت
“أتعرفين ما مشكلتك يا آلارا؟ لقد أفرغت بئرك باكرا جدا، وعليك ملؤها من جديد لو أردت الاستمرار في الرسم، لوحاتك الأخيرة بدت تكرارا لذات الفكرة” ... يبدو أن هذه النصيحة التي تلقتها آلارا الحسيني من أستاذتها في الرسم، هي نفسها النصيحة التي توجهها الدكتورة “لنا عبد الرحمن” لنفسها لكي لا تفرغ بئرها باكرا، لذا نجدها تحرص في رواياتها السبع على ألا تكرر الفكرة نفسها مرتين، حتى وهي في رواياتها تعاود تناول ثيمات الهوية والعوامل المؤثرة فيها، مثل الحرب والحب والفن. ففي كل مرة تلامسها من زاوية مختلفة، وفي “تميمة العاشقات” الصادرة في القاهرة 2023 عن الدار المصرية اللبنانية. الرواية تحكيها “زينة” التي تصفها الرواية بأنها القادمة من الغد، فعندما تسقط وتغيب عن الوعي لفترة، بعدها تفيق لتجد نفسها محاطة بست نساء، هن آلارا الفرعونية، آلارا الحسيني، ميري مجيد، آني داديان، رحمة، شمس الصباح، تقول حين تراهن: “وجوه لا أعرفها لكنها تشبهني”، ويقلن لها: “نحن جداتك يا طفلة”، تسمع حكاياتهن وتستحضر معهن أزمنة سحيقة وترتحل عبر أماكن عديدة، وعلى الرغم من ذلك تبدو الحكايات مترابطة، والنسوة نجدهن متشابهات في المصير، وكأنهن جميعا روح واحدة كلما غادرت جسدا بعدما انقضى أجله وانطوى زمنه، عادت لتواصل رحلتها في جسد غيره ينتمي لمكان وزمن آخرين. لذا فإن الحفيدة تصف جداتها بأنهن: “نساء مضت مصائرهن الغامضة في دروب عسيرة، ولم يتمكنّ من العودة منها”، حتى الأماكن التي تختلف باختلاف الأزمنة، نجدها دائما تواجه محنة ما، سواء كانت حربا ضروسا تهلك المدن، أو وباء يفتك بسكانها، هكذا تشابهت المصائر وغادرت الروح أجسادا فانية حتى استقرت بعد قرون في جسد الحفيدة، “زينة” “الباحثة عن ذاتها والراغبة في التحرر من سطوة الروبوت “رام” الذي برمجته بنفسها ليساعدها في كتابة روايتها، فإذا به ينقلب عليها ويفرض سطوته عليها محاولا استلاب إنسانيتها، فتصبح بحاجة إلى تميمة تدرأ عنها الخطر المحدق.
العتبات
يلحظ القارئ لروايات الدكتورة “لنا عبد الرحمن”، مدى إدراكها للقيمة الفنية والجمالية للعنوان، ويتذكر ما قاله “جيرار جينيت” الذي اقترح وظائف عدة للعنوان، منها الوظيفة الإيحائية، بمعنى أن يكون العنوان كاشفا عن متنه، بناء على الخصائص الأسلوبية والمضمونية للنص نفسه. ومنها الوظيفة الإغرائية، بمعنى أن يكون مثيرا للقارئ ومحفزا له للولوج إلى عمق النص. أي يطالب العنوان بأن يكون موجها للقارئ، وأن يكون مفتاحا يفك ألغاز النص ويستكنه أسراره كاشفا أبعادها الدلالية.
كذلك فإن قارئ روايات الكاتبة “لنا عبد الرحمن” يلحظ وجود ظواهر فنية تتكرر
في عناوين رواياتها السبع، وهي بالترتيب: “حدائق السراب، تلامس، أغنية لمارجريت، ثلج القاهرة، قيد الدرس، بودابار، تميمة العاشقات”، هكذا نجد أن الكاتبة لجأت إلى التنكير في العناوين السبعة، وجعلت خمسة عناوين منها ثنائية، وقد كان للعناوين كلها حضور داخل النص، كما سنرى على سبيل المثال في روايتها الأحدث “تميمة العاشقات”.
وكما اهتمت الكاتبة بعتبة العنوان، اهتمت كذلك بعتبة التصدير، فاختارت له مقتبسا من الروائي الألماني جونتر جراس: “لا تمضِ إلى الغابة / ففي الغابة غابة / ومن يمضي إلى الغابة / لا يُسأل عنه في الغابة”، وهو مفتتح مناسب لحالة التيه التي تعانيها بطلات الرواية، ومنهن “زينة”، لكن زينة لا تلقي بالا للتحذير، فتمضي إلى الغابة وهي واثقة أنها ستعرف طريق العودة ولن تعاني التيه، كما سنرى.
تمائم العاشقات
تحكي الرواية عن سبع عاشقات لهن تميمة واحدة، لذلك يأتي ذكر التميمة بصيغة المفرد بينما العاشقات جمع، أي أنهن سيتبادلن الاحتفاظ بالتميمة، لأنها ستنتقل إليهن تباعا، والتميمة هي تعويذة من خرز أو من مادة أخرى تحوي طلاسم سحرية، وتنسب لها قوى خارقة تحمي من يحملها من خطر لا قبل له به، لذا فهو يعلق التميمة للاحتماء بها، والتميمة هنا قرط من الياقوت باركته الربة إيزيس وأمرت آلارا ألا تخلعه طيلة حياتها، لكي تكون محمية هي ونسلها من الأمراض ومن كل الشرور، مثل الحسد والحقد والغيرة، وقد تلت عليه الكاهنة دار تعاويذ وتمائم لتؤكد فعاليته، لكن كل الشخصيات الحائزة على القرط لم تجد حماية من مصيرها المحتوم، وهذا ما تيقنت منه زينة، وما كانت تدركه الساردة نفسها، فمثلا تشير إلى أن مراد أبقى القرط الياقوتي في حوزته ظنا منه أنه سيعيد له محبوبته آني، لكنه حينما أيقن أنها لن تعود أرسله إليها مع رسالة أبكتها ثم حرقتها وواصلت حياتها.
وقد انتقل القرط إلى أماكن عديدة ليصل إلى العاشقات، ففي الهند اشترته آلارا الحسيني من أمان، وقبل ذلك كان أمجد قد أهداه إلى ميري مجيد، وهكذا حضر ذكر القرط (التميمة) في مواضع عدة من الرواية، وقد حازته كل واحدة من العاشقات السبع، لكنه فشل دائما في أن يمنحهن ما أردن، ربما لذلك أرادت الساردة أن تستعين بتميمة أخرى، فلاذت بالتسبيع أو بالقدرة العجيبة التي يتمتع بها الرقم “سبعة”، فهو عدد أيام الأسبوع، وعدد ألوان قوس قزح، وهو رقم الحظ الحسن في الأساطير، وله مكانة كبيرة في كل الديانات، لذا استعانت به الساردة لتعزز من قدرة تميمتها، فذكرته في ثنايا النص غير مرة، مثلا حينما ذكرت الربة حتحور وبناتها السبع، كما قالت آلارا: “قيل إني سبع مرات سأحيا، وفي سبعة أجساد سأموت”، كما اختارت من بين ملايين العاشقات سبعا فقط هن زينة وجداتها الست، وهن يشكلن عنقودا روحيا واحدا، لذا لم تهتم الرواية بحكايات نساء أخريات، حتى لو ظهرن في حدث ما يكون ظهورهن عابرا، كما وجدنا في شخصية “دارا” التي تصف حياة الأخريات بالمملة، وترى في القصر سجنا، وكانت تنحاز للجسد، ونقيضتها آسيا ابنة آني وأم ميري مجيد، التي أجادت ترويض جسدها، وانحازت للروح، فآمنت بأن المسافات مجرد، وأنها لا تعني شيئا بالنسبة للروح ذات القدرة الخارقة على عبور المسافات، لذا وصفتها أمها آني بأنها ابنة “عنقود روحي آخر”، وكان هذا التعبير قد ورد في الرواية في موضع آخر، وعلى لسان زينة حين قالت: “ربما يكون المرء محظوظا بأن ينضم منذ اللحظات الأولى إلى عنقوده الروحي”.
لكن التسبيع أيضا لم يسبغ حماية عليهن، فكان لا بد من تميمة ناجعة، وقد اهتدت إليها الحفيدة، وتتمثل في الحكاية. آلارا الأولى أدركت سر الحكاية، فقالت بتحسر: “لن يكتب أحد قصتي، ستظل مجهولة ما لم أحكها (...) وإن حكايتي ستظل محجوبة لألف عام وألف”، وقد شكلت حكايتها الخيط الأول، وقد اختارت الكاتبة أن تسمي فصول الرواية خيوطا فضية، تجدل منها الحفيدة زينة تميمتها الخاصة، فهي تتبع الخيوط، تواجه التجربة التي تخص أرواحا عتيقة، تعبر من أمامها فتحاول أن تستدعيها من ذاكرتها الأعمق (ذاكرة الأثير)، كما تسمع صوتا يهمس بأن الحفيدة تحمل بصمة الجدة وذاكرتها، لذا تسير خلف حكاياتهن نحو زمن موغل في القدم، لذا بدت زينة وكأنها تتذكر ما عاشته فعلا أكثر مما كانت تنقل ما سمعته من جداتها.
لهذا امتلأت الحكايات الست الأولى بالتفاصيل، ولجأت الساردة خلالها إلى تقنية “التلخيص”، بينما في الخيط الفضي الأخير الذي يخص “زينة” وحدها، قلت التفاصيل والتلخيص وزاد التكثيف، فقد تحررت من رام وامتلكت ذاتها، وأدركت أن “الضوء العتيق الصادر من الأرض منذ آلاف السنين ما زال مرتحلاً عبر الفضاء، وأن عليَّ الانتقال ملايين الكيلومترات لأعيش في زمن سابق”. هكذا تصبح قادرة على التحرك بحرية بين المكانين، فتقول “أريد أن أعود إلى زمن كان الإنسان فيه يشع نورا مثل الشمس”، كذلك أدركت أنه في مكان ما يوجد الماضي كله، وفي مكان ما يوجد المستقبل كله، وأدركت أن “الأفكار كما الموسيقى كما الكلمات، حكايا حقيقية سرمدية لا تعرف حدودا”.
هكذا كانت “الحكاية” وحدها هي التميمة المجدية، التي أسبغت على العاشقة حماية روحية ساعدتها في رحلتها، وفي تحديد هدفها وفي التحرر من سيطرة رام والآخرين.