التاريخ السرّي والمستقبل الغريب للكاريزما

ثقافة 2023/11/15
...

جو زاده

ترجمة: مظفر لامي

في عام 1929، نشرت إحدى الصحف الوطنيَّة الألمانية قصة مصوّرة تحت عنوان (أصبحوا أساطير)، تظهر فيها شخصيات لها تأثير عالمي، وكان من بينهم الرئيس الأميركي السابق وودرو ويلسون، والثائر الروسي فلاديمير لينين، والزعيم الهندي المناهض للاستعمار المهاتما غاندي، وإلى جانبهم كانت هناك صورة لشاعر ألماني منسي منذ فترة طويلة اسمه ستيفان جورج، الذي كان يُعرف بين أتباعه ومريديه باسم ( Masterالسيد )
كان جورج يبلغ من العمر حينها 61 عاماً، بلا مسكن ثابت، ولا معلومات كافية عن حياته الشخصية وماضيه، لكن ذلك لم يشكل مأخذاً عليه عند أتباعه، وبالنسبة لهم كان يفوق البشر؛ (أنا كونية) (عقل يمعن التفكير في كينونته)، وخلافاً لظروف جمهورية فايمار في ألمانيا، التي أصيبت بصدمة إذلال الهزيمة في الحرب، وانهيار الثقة في المؤسسات السياسية والثقافية التقليدية، كان جورج يبشر بواقع بديل من خلال كتب الشعر. حيث تسبح كلماته في بحار متلاطمة من اللاعقلانية، التي تصادف فيها آلهة وثنية، مصائر قديمة و(إمبراطورية روحية) يسميها (ألمانيا السرية) التي تغلي تحت سطح الحياة اليومية. باختصار، كان جورج يحلم بوهم سياسي يلح عليه باستمرار، يتمثل بمستقبل مستوحى من الماضي، يعيد أمجاد ألمانيا الغابرة، في المقابل، أبدى الألمان بأطيافهم السياسية كافة انبهارهم، غير أنَّ العديد منهم نأوا بأنفسهم لاحقاً نادمين.
كان والتر بنيامين يتسكع لساعات حول حدائق هايدلبرغ التي يرتادها الشاعر، على أمل أن يراه. وبرتولد بريشت كتب في مذكراته اليومية (أنا أتحول إلى ستيفان جورج). الاقتصادي كيرت سينجر أعلن في رسالة إلى الفيلسوف مارتن بوبر (لا يوجد رجل يجسد الألوهية بشكلها الخلاق والأكثر نقاءً أفضل من جورج). في عام 1910 التقى ماكس فيبر، أحد الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع، بستيفان جورج، ومن الوهلة الأولى وجد ما يثير فضوله، رغم عدم قناعته بقضيته التي شعر أنه يخدم بها (آلهة أخرى)، لكنه كان مفتوناً بسطوته الغريبة على أتباعه. وفي مؤتمر في فرانكفورت، وصف (الطائفة) التي كانت تزداد من حوله بأنها (طائفة دينية عصرية) توحدها على حد قوله (مشاعر العالم الفنية). في شهر حزيران من ذلك العام، كتب رسالة لأحد طلابه، وصف فيها امتلاك جورج سمات العظمة الحقيقية إلى جانب صفات أخرى مثيرة للسخرية، ومن أجل التعبير بدقة عن انطباعه عنه، أعاد إحياء تلك الكلمة التي لها ندرة وخصوصية استثنائية: الكاريزما.
 كانت الكاريزما آنذاك، مفهوماً دينياً غامضاً يستخدم غالباً في صميم اللاهوت المسيحي. ويعود ظهورها لما يقرب من 2000 عام في كتابات بولس في العهد الجديد، حيث استخدمت لوصف شخصيات مثل يسوع وموسى المؤيدين بقوة أو بركة الرب. وهي مستعارة من الكلمة اليونانية charis، التي تشير بشكل عام إلى الشخص الذي حلت عليه النعمة والبركة. وكان رأي فيبر أنَّ الكاريزما لا ينبغي لها أن تقتصر على الأيام الأولى للمسيحية، بل هي مفهوم يفسر ظاهرة اجتماعية أوسع بكثير، وقد استخدمها أكثر من ألف مرة في كتاباته، مشيراً لأثرها في شتى مجالات الثقافة والسياسة، في الماضي والحاضر، وخصوصاً وبشكل واضح في حياة ستيفان جورج.
في عام 1920 توفي فيبر، قبل وصول جورج لأوج قوته وقبل ظهور الدكتاتوريات الشمولية التي ستحدد أغلب الأحداث في القرن العشرين، لكنه كان قد شهد بالفعل ما يكفي لبناء نظريته عن الكاريزما. حيث اعتقد أنَّ إيماننا بالمؤسسات التقليدية والعقلانية يتداعى في أوقات الإرباك والأزمات، ويكون بحثنا عن النجاة والخلاص موجهاً نحو الجاذبية غير العقلانية للأفراد، الذين يخرجون عن المألوف ويتحدون الأعراف والقيم السائدة. ويكونون في نظر أتباعهم (غير عاديين) أو (خارقين) وحتى (خارقين للطبيعة)، وتحت تأثير شحنة ملتهبة من العاطفة، يضعونهم في المناصب العليا للسلطة. في رأي فيبر، أنَّ هذا النوع من قوة التأثير الكاريزمية، لم يتجلَّ فقط عبر روايات التاريخ ـــ في الأديان والمجتمعات التي ظهر فيها الأنبياء والقديسون والشامان وأبطال الحرب والثوريون والمتطرفون ــــ بل يتردد صداه في القصص التي نرويها لأنفسنا، وفي حكايات الأبطال الأسطوريين مثل أخيل وكو تشولين. وفي العادة تكون هذه الانفجارات الكاريزمية قصيرة الأمد وغير مستقرة. كتب فيبر (كل ساعة من وجودها تقربها من النهاية) لكن الأكثر تأثيراً بينها، يمكن أن تُنشئ عوالم، وتترك وراءها إرثاً من التقاليد والقيم الجديدة التي تُكرس بعد ذلك في هياكل السلطة الأكثر تقليدية. وفي الأساس، يرى فيبر أنَّ جميع أشكال السلطة تبدأ وتنتهي بالكاريزما؛ فهي التي ولدت ولا تزال الانفجارات العنيفة للتقلبات المجتمعية، ومن خلال هذه النظرة اعتقد أنه اكتشف (القوة الثورية الخلاقة) للتاريخ.
إنَّ التعريف السليم علمياً أو المتفق عليه عموماً للكاريزما، يظل بعيد المنال حتى بعد كل هذه السنوات من البحث في علوم الاجتماع، الانثروبولوجيا، علم النفس، العلوم السياسية والتاريخ، فقد اختلف الأكاديميون في تفسيرها وبلورتها واستخدامها، ولم يتفق لهم رأي، إن كان مصدرها يكمن في سمات القائد القوية، أم في العقول الحساسة للأتباع، وربما في مكان ما بين الاثنين، يمكن أن ندعوه بمجال الجذب. يعرف قاموس كامبريدج الكاريزما على أنها (قوة خاصة يمتلكها بعض الناس بشكل طبيعي)، لكن هذا الارتباط بالتأثير الفردي، يتعرض للانتقاد، باعتباره مجرد تعبير آخر مكرر عن الرجل العظيم، يتجاهل الكثير من التعقيدات المتداخلة. وفي كتابها (الكاريزما وخيالات القادة السود) ذكرت إيريكا إدواردز أنَّ هذا الرأي (منح القادة ذوي الكاريزما من فريدرك دوغلاس إلى مارتن لوثر كينغ، امتيازاً على الجهود الشاقة، وغير الموثقة التي بذلها الرجال والنساء والأطفال لإعادة تشكيل واقعهم الاجتماعي) مضيفة أنَّ هذا الاعتقاد غير النقدي بالكاريزما كمحرك للتاريخ، (يتجاهل محدوديتها كنموذج للحركات الاجتماعية، في الوقت الذي يعرض لنا فيه مدى قوتها الخطابية).
الكاريزما إذن مثل الحب أو الجمال، وربما تبدو في عين المراقب، إيماناً وحبّاً مُخدِراً، يتم تفعيله على نطاق جماهيري واسع، خلال ظروف تاريخية معينة. وتبعاً لذلك، اعتقد عالم السياسة الأميركي الراحل سيدريك روبنسون أنَّ الكاريزما (قوة نفسية اجتماعية) ترمز للقوة المطلقة للشعب، الذي يُمثل بجماهير وضعت كامل تركيزها في فرد مختار واحد، يكون خاضعاً تماماً في علاقته معها، وملزماً بدوره في تفعيل إرادتها الشعبية التي ستختفي جاذبيته الكاريزمية من دونها. يقول سيدريك (في الحقيقة، الظروف الاجتماعية والخصائص الديناميكية النفسية والتقاليد، هي من تختار الشخصية الكاريزمية، وليس الأتباع بتأثير من الفرد واحد).