إسماعيل شموط.. المرأة بألوان لا تغادر الماضي

ثقافة 2023/11/15
...

 وارد بدر السالم

يوصف الفنان الفلسطينيّ إسماعيل شموط بأنّه ذو أسلوب تعبيري.
ولوحاته تُدل على نهجه الفني في علاقته المباشرة مع الطبيعة. وهي علاقة جدلية مترابطة بينه وبين المكان. ولا يؤخّذ على التعبيرية قِدمها كونها مدرسة فنية ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر في ألمانيا وأمتدت إلى أنحاء أوروبا، فهي نهج فني متحرك حتى بعد ظهور مدارس كثيرة بعدها. ونلاحظ في ظهورها القديم كمدرسة ومنهج وأسلوب أن تأثيراتها لا تزال قارّة، في الاهتمام بالطبيعة ورموزها، قبل أن تنتقل إلى فضاءات أخرى منها العربية والشرق أوسطية بعد أن مثلت المانيا وأوربا. على فرضية أن الطبيعة كمفهوم مجرد هي المكان وتاريخيته المتوارثة، وما فيه من اختلاجات نفسية واعتبارية ورؤيوية، تتجسد فيه طاقة استثنائية في الإلهام والتعبير الفني.
 ولأن الفنان إسماعيل شموط، الذي هو من مواليد 1930، كان أقرب لتلك المدرسة التي نشأت عام 1910 وبشكل مبكر أقترن أسلوبها بلوحاته، وبتأثيرات معاناة المكان الفلسطيني المرتحل، فمن اليقين أن تترك تأثيراتها على إبداعاته الفنية، لاسيما في تقصّيها للمكان وشروطه الذاتية، المتمخضة عن سيكولوجية فاعلة في المكان وتفاصيله الكثيرة.
لذلك فأن شموط يُعد هو الرائد الأول للحركة التشكيلية الفلسطينية المعاصرة، والمحرّك الباعث والأساسي في خروج الفن الفلسطيني من دائرته الضيقة.
فهو ابن المكان، وابن المعاناة الفردية والجماعية، وبالتالي فالتعبيرية كمدرسة وشكل فني تلائم ما فيه من نزوع نحو المكان وتوصيفاته المحلية/ الشعبية العامة، التي أسهمت في إيقاد جمرة الحنين فيه، مثلما أوقدت فيه جمال الماضي والحاضر في الأمكنة التي توزع فيها كلاجئ.
من الضروري أن نعرف عن الفنان أنه لجأ عام 1948 إلى مخيم اللاجئين مع أسرته في خان يونس، وتوفى أخوه الصغير عطشاً أثناء الهجرة، وأنه عمل بائعاً للحلويات في المخيم.
وهذا يكفي لأن نؤشر أولاً إلى المعاناة الفردية، قبل أن نتصل في المعاناة الجماعية للفلسطينيين، ومن ثم نعرف أن السلوك التعبيري في الرسم لديه، كان لتأكيد صلته بالمكان المحلي والطبيعة المحلية، فتحتم عليه الالتزام بهذه التعبيرية، وهو ما جعله يكون قريباً من الواقعية المرموزة أيضاً بعلامات فنيّة ليست خافية من أنها تشير إلى القضية الفلسطينية برمتها.
بدءاً من المرحلة الخمسينية التي أظهرته في بواكير انشغالاته الفنية واقعياً، وما تبعها من مراحل عقدية مرت على فلسطين، في المقاومة والفدائية ومعاناة سكان المخيمات وغيرها من المؤثرات. وفي تلك المراحل الفنية كان اللون يتحكم بلوحته، ويشير إلى تدرجاته الطاقوية في استلهام الكثير من الفائض النفسي الذي لم يعد الفنان يميل إلى تجريده، بقدر تمكنه من التعبير عن الإطار أو الشكل في احتواء الواقع الفلسطيني، والفولكلوري منه بوجهٍ خاص.
ومعنى هذا في أن اللون تحكم أيضاً في توجيهه إلى الرموز والمجاز في التصوير التعبيري، واستدعاء المختفي من الذاكرة، والقبض على الذكريات الطويلة التي عاشها، وتمثيل الانتظار الطويل للفلسطينيين المغادرين أرضهم وبيوتهم وذكرياتهم التي تتكثف في اللوحة التي يرسمها.
بما يمكن له أن تكون لوحته ضمن التاريخ الفلسطيني في خطابها الواقعي، الذي يتلبس مرة بالتعبيرية وأخرى بالرمزية، فالفسحات المهيأة له فنياً تستدعي من لوحته أن لا تغادر الماضي بأي شكل من الأشكال، فنجد الأطفال والشيوخ والنساء والطبيعة الحيّة في تكوينها الجغرافي التي لم تغادر الخيال الشخصي ولا الجماعي عنده.
لذلك شكل حضور المرأة لديه حضوراً قوياً بمدلولات الخصوبة والولادة والحب والجمال التي لم يستطع الصهاينة من اقتلاعها من داخل المرأة الفلسطينية، التي اكتظت بها لوحاته الزيتية في كل مراحل التكوين الشخصيّ
للفنان.
المرأة تشغل نسبة عالية من لوحاته التي لم يغادرها كثيراً في شتى مراحل نموه الفني. فهي/ الولادة/ الرمز/ الخصوبة/ الأرض/ العطاء/ الديمومة/ البقاء.
لذلك فأن الألوان البهيجة تحيط بلوحته/ الأزرق والأخضر/ وسواها من ألوان الفرح والأمل التي اعتمدها في تأكيد أصالة ثيمة المرأة في قوتها كزوجة ومقاتلة وأم وحبيبة في بزوغها المتألق؛ لهذا يستدعي وجودها عادة من الفولكلور الشعبي الأصيل، بوجود رموز مباشرة كالحمامة والبندقية والمروج والوجوه المتناظرة في زهوها الشخصي، بالرغم مما يحيط بها من عنف وقسوة، كأنما يرسم قصائد فلسطينية أكثر شفافية من الشعر الموصول بالمدرسة التعبيرية، وهي المدرسة التي أسست وجودها الأوربي في أوائل القرن التاسع عشر من الأثر الجمالي الشعري، بما تركه من نسيج ذاتي قوي على التلقي العام، كما يفعل الشعر الذي وهبها تلك الفرادة كونها تمخضت من معطياته الجمالية، والمتابع لمعطيات التعبيرية الفنية، سيجد أمامه فرشة واسعة من الحركة الشعرية والروائية الأوروبية الذي تمخضت عنه (بودلير.. ديستويفسكي..) كتأسيس متداخل يُفهم؛ بينها وبين الأدب عموماً؛ على أن هذه الحركة كانت مثالية في تقصيها لمشكلات العالم الداخلية، كانعكاس الحروب على الشخصية الإنسانية، لذلك فهي ليست واصفة كما في بعض المدارس التالية، بل تحرث وجودها من الداخل الإنساني، ومن ثم فأن الفنان شموط وهو يلتحق بهذه المدرسة التي كانت رائجة في أوربا، لتوطيد صلته النفسيّة والاعتبارية بالوجود الفلسطيني الذي عاشه وعاش قسوته في مثلث (اللجوء. وفاة أخيه عطشاً. عمله كبائع حلويات) كانعكاسات من الألم والقسوة النفسية، أحاله إلى تتبع المكان الفلسطيني وتاريخيته وجمالياته، بوجود المرأة، فأعطاه الدرس الوافي بأن القضية عبارة عن فقدان وغياب ومشقات مستمرة. لنجد أن مراحله الفنية بدءاً من الخمسينيات حتى وفاته عام 2006 تطورت بتطور الغياب الفلسطيني، بكل ما فيه من تداخلات مريرة وتعسفية، اختلجت فيه ألوان الفنان، وتباينت، مثلما تباينت رسوماته الزيتية تماشياً مع تعقيد القضية الفلسطينية، التي لم يستطع تجاوزها، ولم يستطع معها أن يتجاوز موضوعة المرأة، التي منح وجودُها طاقة في التعبير والرمز والبقاء الخلاق في كثير من الأحيان.
أقام الفنان أول معرض له في مدينة غزة بتاريخ 29 يوليو/تموز 1953، أما معرضه الرئيسي فأقامه في القاهرة عام 1954، كما وتزوج من الفنانة التشكيلية تمام الأكحل عام 1959، وانضمّ إلى منظمة التحرير الفلسطينيّة عام 1965، وقد أسس أول إتحاد للفنانين الفلسطينيين عام 1971.. أسماعيل شموط نزح إلى الكويت عام 1983، واستقر في عمّان عام 1994. وعن عمر يناهز 76 عاما توفى شموط في الخامس من يوليو/ تموز 2006 بألمانيا.