عن جدوى الكتابة

ثقافة 2023/11/15
...

 حيدر علي الاسدي

 لماذا نكتب؟ هذا السؤال الجدلي الذي يباغتنا سواء لحظة الإمساك بالقلم ومكاشفة بياض الورق، أو لحظة التسمر أمام الشاشة الإلكترونية ومداعبة أزرار الحاسوب بالأفكار المختلفة، لماذا نكتب؟
سؤال يتجدد في حقب متعددة من حياتنا ككتاب، نسأل بنات أفكارنا عن الجدوى واستمراريتها ومقاصدها.. هذا السؤال لم يترك هكذا، فقد أجاب عنه بعض الكتاب ومن زوايا مختلفة، فعندما تحدث جورج اورويل) عن سؤال الكتابة وجدواها، أشار إلى أربعة دوافع، متمثلة في (حب الذات، الحماس الجمالي، الحافز التاريخي، الهدف السياسي).

أما الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، فقد ذكر أنه يكتب لكي (يفرح الأصدقاء)، بينما يرى الروائي المصري الشهير نجيب محفوظ أن (الكتابة) مثل أي نشاط يقوم به الإنسان، وأنها (تتصل بهموم الناس)، وأنه كتب في بداياته غاية في (الاستمتاع الشخصي)، ثم بعدها تحولت الكتابة الى الجد وحلم الوصول إلى المجد والشهرة وغيرها.
من جهتها، تقول الكاتبة الاسبانية ايزابيل الليندي عن الكتابة «أحتاج أن أروي قصة، إنه هاجس، كل قصة هي بذرة في داخلي تنمو وتنمو مثل ورم يجب عليّ أن أتعامل معها عاجلا أو آجلا».
فهل نكتب استجابة (لنرجسية خفية في ذواتنا)، أم نكتب من أجل (خلود ومجد تاريخي)، هل نكتب غاية في (اثبات الوجود)، أم أننا نكتب من أجل تزجية الوقت وهرباً من النمطية والملل وبوصف الكتابة (كماليات حياتية) كغيرها من المهارات والمهن والحرف التي قد يمارسها الفرد في حياته اليومية، أم نكتب لأننا نشعر أننا إزاء مسؤولية (تحمل هموم ومعاناة من نكتب لهم)، وهل نتفاعل مع الهم اليومي (فنكتبه بأجناس مختلفة)، أم أننا نتستر على مخاوفنا الحقيقية إزاء هذا الوجود المرعب والواقع المتغير الذي يصيب مسارات الحياة وأشكالها فيسيرها إلى تحولات سريعة ومخيفة، لا يمكن أن ينعم فيها الفرد (بالأمان/ الاستقرار)، وهل تنطلق كتابتنا من (مفاهيم ايدولوجية/ معلنة أو مضمرة) بحيث نحاول أن نوظف الأفكار لتغيير قناعات المجتمع (القراء) أم نكتب لإضفاء جماليات من نوع خاص في عالم ملأه القبحيات التي تثير فينا حساسية الوجود (والمشاهدة) و (التعايش) مع هذه الجزئيات المرئية والتي تكتنف كل صور حياتنا اليومية.
الكتابة وإن كانت مسؤولية إلا أنها لا يمكن أن تتجذر بغاية محددة وتكون هذه الغاية قارة في (ذات/ الكاتب) لأن منطلقات الكتاب مختلفة وبداياتهم ينقصها وازع الوعي إزاء مقصدية الكتابة، فما بين الرغبة والطموح والشغف من أجل اثبات الذات النرجسية، ثمة هاجس حقيقي يطلق عليه (مشروع للكتابة) يبتعد عن هذا الطموح النزق (طموح البدايات/ والاصدار الأول وبريق ظهور الاسم في الصحف والمجلات ولمعان النجومية والترند) وابداء البعض الاعجاب والانبهار بما يكتبه الأديب، حتى ينعرج مسار الكتابة بعد أن يشبع الكاتب نرجسيته ويحقق ما يصبو إليه من شهرة، وإن كانت نسبية، فهل تتحول مسارات الكتابة وغاياتها لديه؟
بلا شك أن الكتابة، وإن كانت موهبة، إلا أنها تحمل في بذرتها (طموح المشروع) المتعلق بمدى وعي الكاتب بما يكتب، لأن الكتابة خطاب عبور وتوصيل رسالي، وفي الوقت ذاته خطاب ينبع من الجماليات، والبحث عنها في كنف الوجود والمعرفة وتداولها، وإن كانت في صورتها الكلية تحمل معها صفة القصور والسذاجة في بعض مراحلها.
إن صيغ الكتابة اليوم باتت تخلو من المنابع النقية أو تشتبك بمرحلة من التداخلات من حيث المقصد وإنتاج الكتابة التي تجترح لنفسها رؤى جديدة تقوم على الانفلات (اللا مسؤولية) والرغبة بالتمرد والجنوح تماشياً مع نسق التفكير المعكوس على مفاصل الحياة المختلفة.
إن الكتابة واحدة من النوافذ التعبيريَّة التي أصابها عطب الحياة واصابتها فايروسات التجديد والتجريب (السلبي) غير المبني على الوعي، فانكبت الكتابة في مهاوي (السطحية/ والسلعية) وأصبحت نزوات شبابية ،او مهاترات عبر الفضاءات الاثيرية، أو مدونات تعبير (لمن هب ودب) أو مجرد تسويق مادي خاضع لمزاجيات (دور النشر) وشخصية (الكاتب/ الكاتبة!) وما ممكن أن يحقق من ترويج وتسويق للدار أو للكاتب ذاته، فبعد أن كانت الكتابة هم كبير ومسؤولية تحولت إلى أداة تسويق، وأداة ايدولوجية، وأحيانا أدوات تخريب، وصناعة المحتويات الهابطة والأكاذيب، وأدوات قتل وإرهاب فكري
وثقافي.
الكتابة منبعها (كلمة) والكلمة (بناء وهدم) وعلى وفق هذا المعطى الجمالي والفكري، فأنه يجب القول وبشيء من ملامح الفكر الديكتاتوري! بضرورة (الرقابة الموضوعية) على ما يكتب، حتى لا تتحول مسارات الكتابة إلى الانخراط بالمعطى (السياسي/الايدولوجي/ التهريجي/ السلعي.. وغيره) وحتى تبقى مسؤوليتها كامنة في المعطى (التربوي/ الفكري/ الجمالي) حتى وأن بحث الكاتب عن مجده، وكتم مخاوفه ومواجهته لبشاعة هذه الحياة، فأن الكتابة هي إحدى أدواته اليومية لأثبات وجوده كفرد منتج في هذه المعمورة.
أن يكتب يعني أن يعي بما يجري في المحيط.. إن يكتب يعني أن يعي أزمة مجتمعه الحقيقية، أن يكتب يعني أن يعي ماهي مكامن الجمال والخراب، أن يكتب يعني أن يدرك ماهية الإنسان إزاء الثقافة وتحولاتها لسلوك حياتي يومي.
ثمة (دوافع) حقيقية تجر الأديب إلى الكتابة حتى وإن تحولت الكتابة (لأداة تثوير) فأنها لا تنجو من المغالطات وربما الاقصاءات أو حتى المهادنة والرضوخ إزاء ما يمكن أن تحوله (الكتابة) إلى وقائع محسوسة وفقا لفرضيات الحياة.
أن الكتابة وإن اختلفت مقاصدها يجب أن تتسم بالمعنى القيمي، ولا تتحول لأداة افساد الأذواق والتكسب غير المشروع، أو محاولة النيل من الآخر بتمظهراته الشخصية والتاريخية، حتى لا يساء لهذا الابتكار التعبيري الذي منه ينطلق المعنى الأول للحياة ومنه ينتهي كل شيء في هذه المعمورة.
نكتب حتى لا نكون سجناء للصمت والآراء المتكلسة والاستعمار الثقافي والتعسف اللغوي إزاء منتجنا، وإزاء وجودنا، نكتب حتى نواصل.
فلولا الكتابة لتحجرت العديد من مسارات هذه الحياة وبقيت اللحظة التاريخيَّة تراوح في مكانها من دون أية صدمات فكرية تعيد إنتاج المعنى وإنتاج المعطى التاريخي وانعكاساته على الراهن اليومي.