الغناء الريفي على ضفاف الفصحى

ثقافة 2023/11/15
...

سامر المشعل

المعروف أنَّ الغناء الريفي يغنى باللهجة العاميَّة أو ما يسمى بـ "الحسجة" ويقدم نغمياً على شكل أطوارٍ ريفيَّة. وكل طور يقابله مقامٌ معين، على سبيل المثال طور "الصبي" الذي نشأ في مدينة سوق الشيوخ بمحافظة الناصريَّة، مشتقٌ من مقام النهاوند، وطور المحمداوي الذي نشأ في محافظة العمارة مشتقٌ من مقام "الصبا".. وهكذا، ففي الجنوب تسمى أطوارٌ وفي بغداد وبقيَّة المحافظات تسمى مقامات. وعادة ما يكون التحصيل العلمي لمطربي الريف متواضعاً، ومستواهم الثقافي بسيطاً، فالاقرب إليهم ذوقياً ومعرفياً هو الشعر الشعبي مثل الأبوذيَّة والزهيري والدارمي وغيره.
لكنَّ هذا لم يمنع أنْ تكون لهم رؤية واسعة وعميقة بالحياة بحكم تجاربهم وتربيتهم العشائريَّة القائمة على القيم والتقاليد والأعراف العربيَّة الأصيلة.
الظاهرة التي أريد تناولها هنا، كيف تسنى لمطربي الريف الغناء باللغة العربيَّة الفصحى وتقديم القصائد، وهي ظاهرة تسترعي الاهتمام، كون اللغة الفصحى بعيدة عن اهتمام مطربي الريف، فضلاً عن كونها صعبة الأداء والتلحين حتى على المطربين الأكاديميين وخريجي المعاهد والكليات، وعند البحث لم أجد أيَّة مصدر بهذا الشأن.
هناك العديد من المغنين الريفيين الذين غنوا الفصيح ومنهم الفنان داخل حسن في موال "ذهب الشباب فما له من عودة.. وأتى المشيب فأين منه المهرب "، وقد أدى داخل حسن هذا البيت الشعري في أواخر تجربته الغنائيَّة قبل اعتزاله.
المطرب الريفي الذي شكل ظاهرة في الغناء الفصيح، هو المطرب سلمان المنكوب، فهو أكثر المطربين الذين قدموا الفصيح، وقد أثر في الكثير من المطربين الذين جاؤوا من بعده وأخذوا ينسجون على منواله مثل المطرب عبادي العماري وحسين سعيدة ومن ثم رياض أحمد وقحطان العطار. وغيرهم الذين أخذوا يقدمون الغناء الفصيح باللون الريفي. ولأنَّ المنكوب شاعرٌ متمكنٌ وعاشقٌ للشعر العربي ويمتلك ذاكرة شعريَّة تختزن عشرات القصائد من الأدب العربي، فكان من السهل عليه أنْ يقدم القصائد بحنجرته المدربة على الغناء الريفي.
لكنْ قبل المنكوب من كان يقدم هذا اللون من الغناء؟ عند البحث في هذا الموضوع وجدت أنَّ المطرب الكبير والشاعر المهم عبد الأمير الطويرجاوي هو من قدم هذا اللون، والمنكوب تأثر به وقلده وقدمه على طريقته، وهذا ما أكده لي عباس المنكوب نجل المنكوب وعازف الكمان بفرقته الموسيقيَّة.
عبد الأمير الطويرجاوي (1885 –  1970) من مواليد محافظة بابل، بدأ حياته رادوداً وقارئاً للمنبر الحسيني، ثم انتقل الى بغداد واتجه للغناء، فكان يبدأ غناءه بالفصيح ثم يتحول بكل إتقانٍ الى غناء الأبوذيَّة التي تكون منسجمة مع جو القصيدة ومعناها العام. وكان الطويرجاوي يحيي مع قارئ المقام محمد القبانجي والمطرب يوسف عمر الحفلات ومناسبات التعزية والمواليد والمناقب النبويَّة.
ابتكر الطويرجاوي طوراً غنائياً خاصَّاً به أقرب الى اللون الملائي وهو يمتلك حنجرة قويَّة واسعة وواضحة النبرات وجمع بصوته الشجي والعذب الغناء الديني والدنيوي.