ستراتيجيَّة حماس.. الجذور والنتائج

بانوراما 2023/11/15
...

  دانيال سوبلمان
  ترجمة: أنيس الصفار

إن يكن من الواضح أن الحرب في قطاع غزة قد تمثل تهديداً وجودياً لحركة حماس، وربما للقضية الفلسطينيَّة بمداها الأوسع، فإن هذا الصراع وعزم إسرائيل المعلن على محو حركة حماس عن وجه الأرض؛ حتى لو كان معنى هذا خوض حرب تدوم شهوراً طويلة، ستكون له تداعياته العميقة، خلال المدى البعيد على كل طرف من الأطراف الفاعلة التي سيكون لها نصيب ضمن توازنات القوى والنظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط ما بعد الحرب. إن هدف اسرائيل وهويتها، كدولة قابلة للحياة وحامية للشعب اليهودي، مهددان اليوم أيضاً، كما أن المصالح الحيوية للمحور الإيراني برمته في الشرق الأوسط، الذي يطلق على نفسه وصف «محور المقاومة»، والذي أمست حركة حماس عضواً رئيسياً فيه خلال السنوات الأخيرة، معلقة هي الأخرى بكفة الميزان.

محور المقاومة
يتألف «محور المقاومة»، الذي تشكل إيران رأس حربته ومزوّده الاساسي بالمعدات العسكرية والمعرفة الفنية والتكنولوجيا، بصورة اساسية من حزب الله اللبناني وقطاع غزة وسوريا وحركة انصار الله الحوثية في اليمن بالاضافة الى جماعات عديدة في الجوار تدعمها إيران. كل هؤلاء مجتمعين اكتسبوا وزناً حساساً ومهماً كمجتمع ستراتيجي يجمع بين التنسيق والتزامن. وخلال السنوات الأخيرة اصبحت هذه الأطراف تكتلاً إقليمياً يفكر بصيغ جيوسياسية ويتشاطر مع بعضه البعض التطلعات، لتحقيق نظام اقليمي مناهض للغرب في ما تسميه إيران «غرب آسيا».
الى جانب رسالتهم المتمثلة بدحر دولة اسرائيل والقوى الغربية وإخراجهم جميعاً من الشرق الأوسط تتشاطر أطراف «محور المقاومة» من غزة ولبنان وإيران مفهوماً ستراتيجياً متقارباً. فمن حيث الجوهر يقر المنطق الذي تقوم عليه ستراتيجية «المقاومة» بأن الأطراف في الجبهة المقابلة، صاحبة القدرات المتفوقة، مثل اسرائيل والولايات المتحدة والسعودية، تستطيع دائماً ان تصيب المدنيين في دولهم بالبلاء والآلام الهائلة، ولكن أطراف المقاومة، رغم إقرارها بما تعانيه من ضعف في الجانب المدني، تحتفظ بأجهزتها ووسائلها العسكرية وأنظمة القيادة والتحكم عندها واستمرار قدرتها على رد الضربة بوسائل تقليدية من خلال مستودعات آمنة وسليمة. هذا هو بالضبط المنطق الكامن وراء اعتماد «محور المقاومة» على مخزونات ضخمة من أسلحة المواجهة، مثل الصواريخ والقذائف الموجهة دقيقة التسديد والطائرات المسيرة الهجومية بعيدة المدى وصواريخ بر- بحر وغيرها.
هذه القدرات العسكرية في قطاع غزة ولبنان واليمن والعراق وإيران محفوظة بأمان داخل انفاق ومنشآت تحت الأرض- وهي ما يطلق عليه وصف «مدن الصواريخ». في كل منطقة من مناطق الصراع طوعت أطراف «المقاومة» قدرتها على نحو يمكنها من إجبار خصومها المتفوقين تسليحياً على الرضوخ لما يسمونه «قواعد اللعبة» و»معادلات الردع» و»قواعد الاشتباك». الأمر المهم هنا هو ان هذه كلها، رغم أن منبعها في الاصل هو الصناعات العسكرية الإيرانية المتقدمة، لا ينبع معجم مصطلحاتها الستراتيجية والفكرية الخاصة بفكر «المقاومة» من إيران، وإنما من حزب الله اللبناني. وعندما يتعلق الأمر بـالمقاومة، بوصفها ستراتيجية متماسكة غير متناظرة، فإن «المختبر» الاساس الذي ينتجها في الواقع هو الصراع الناشب بين اسرائيل وحزب الله.

المنطق الستراتيجي
في مناسبات عدة على مر السنوات أوضح الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، الذي بقي لوقت طويل عنصراً أساسياً وجزءاً لا يتجزأ من منظومة صناعة القرار الإيرانية، المنطق الستراتيجي الذي تعتمده المقاومة. فالصواريخ والقذائف، كما يوضح نصر الله، هي وسائل المقاومة التي يلجأ اليها الجانب الأضعف لمعادلة التفوق الجوي لدى الجانب الأقوى. بناء على ذلك سيبقى وابل صواريخ الطرف الأضعف يفرض تأثيره على أهداف الطرف الأقوى ما دام هجوم هذا الأخير عليه مستمراً. يخلص نصر الله من ذلك الى أن الطرف الأقوى سيرغم في النهاية على إطلاق عملية غزو برية تضع الخصمين على قدم المساواة فوق ارض مستوية. فالغزو العسكري اذن، وفق هذا المنظور، يكون الحصيلة المرجوة المنتظرة، وقد دخلت إسرائيل في هذا الحقل قبل بضعة أسابيع.
هذه الستراتيجية بالذات، التي كان ينظر اليها عن جدارة بأنها تمكنت من الثبات امام الجبروت العسكري الاسرائيلي في مواجهات عديدة في لبنان طيلة اعوام التسعينيات وكذلك خلال حرب الايام الأربعة والثلاثين اللبنانية في تموز من العام 2006، خاضعة للامتحان حالياً. فخلال تلك المواجهات جميعاً عجزت اسرائيل عن توجيه ضربة عسكرية قاصمة أو إصابة نقاط ضعف حساسة، وما فشلت في تحقيقه عسكرياً عجزت عن تحقيقه دبلوماسياً ايضاً. ما يعنيه هذا هو ان الدولة العبرية، بعد انجلاء الموقف ورغم كل تفوقها العسكري الهائل، قد تلقت ردعا قويا. ونتيجة لذلك ارغمت على الإذعان لبعض «قواعد اللعبة» والتغاضي بالفعل عن استمرار اعمال العنف وعن بناء حزب الله المتسارع لقواه العسكرية.
في وقت لاحق نشط حزب الله بفعالية في تصدير هذا النموذج الى قطاع غزة حيث استمدت حركة حماس القوة من خبرته وتبنت نفس مفرداته. بذا تكون الظاهرة نفسها قد طبقت على المجابهات الاسرائيلية في عموم قطاع غزة منذ إعلان سيطرة حركة حماس على القطاع في حزيران 2007. والآن تحاول الحركة فرض نظرية الردع على القوات الإسرائيلية واخضاعها لما يمكن تسميته «معادلات ردع» تتلقى بموجبها الهجمات الاسرائيلية ردوداً انتقامية بنيران صاروخية كثيفة على العاصمة التجارية لإسرائيل تل أبيب، عندما تتخطى هجمات الدولة العبرية عتبة معينة. وقد صرح المتحدث باسم كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس؛ بعد وصفه مفهوم غزو الجيش الاسرائيلي لقطاع غزة بأنه مضحك، قائلاً إن تسعة اعشار جيش القسام تنتظر المواجهة بنفاد صبر مع اي جيش غاز، على حد تعبيره.

تطور قدرات محور المقاومة
خلال السنوات التي تلت حرب العام 2006 بين اسرائيل وحزب الله، طور الحزب نفسه حتى أصبح يمثل التهديد العسكري الرئيس لاسرائيل. ومنذ تلك الحرب، التي وصفها حزب الله بأنها «نصر إلهي»، تولت إيران إمداده بكثير من القدرات المتقدمة التي صار يمتلكها الآن؛ على نحو جعله يضيّق على الطيران الاسرائيلي في السنوات الأخيرة حرية العمل في أجواء لبنان. وباتت القدرات العسكرية الحالية لحزب الله، ومعها قدرات إيران ايضاً، أكثر تقدماً مما كانت بكثير، ففي العام 2021 أقر «كنيث مكنزي»، وكان حينها قائداً للقيادة الوسطى الأميركية، بأن قدرة إيران الستراتيجية أصبحت هائلة، على حد تعبيره، ثم أضاف: «لقد امتلكوا التفوق في مسرح العمليات والقدرة على تحقيق الغلبة.» أما خلفه «مايكل كوريلا» فقد صرح قبل بضعة أشهر بأن الحرس الثوري الإيراني اليوم لم يعد بالامكان التعرف عليه لدى مقارنته بما كان عليه قبل خمس سنوات فقط.
لا ريب أن حركة حماس قد استمدت المزيد من الشجاعة والإلهام من تعاونها مع إيران وحزب الله، ذلك التعاون الذي تنامى بشكل كبير منذ العام 2021، الى جانب شعورها بأن «محور المقاومة» بأكمله يقف وراءها حامياً ومسانداً. وقد أكد الناطق العسكري باسم الحركة بأن مستوى التنسيق بين حماس ومن وصفهم بالأشقاء في محور المقاومة قد تصاعد وتطور على صعيد حشد الجهود في ما يتعلق بمستقبل الصراع، على حد تعبيره. ولا أصْدَقَ شاهداً على هذا القول من مقابلة أجراها مؤخراَ «صالح العاروري»، وهو الرجل الثاني في سلم قيادة حركة حماس، الذي صرح في أواخر شهر آب الماضي بأن الحرب الإقليمية الحاسمة متعددة الجبهات مع اسرائيل ليست مرحباً بها فقط، بل هي ضرورية في الواقع على المدى القريب، بحسب وصفه.
تحدث العاروري من مقره في بيروت محذراً بأن أمام الفلسطينيين ما بين عامين وثلاثة أعوام قبل أن تستكمل الحكومة اليمينية في اسرائيل رفع عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية الى مليوني مستوطن. لذا فإن هناك مصلحة إقليمية حالياً في نشوب حرب في المنطقة، كما قال، واضاف إن ثمة أطرافا تعمل بمنتهى النشاط والدأب وتتداول لتحقيق هذا الأمر.» خلص العاروري الى ان الحرب اذا ما اندلعت فإن اسرائيل ستمنى بهزيمة غير مسبوقة في تاريخها، وقال: «نحن موقنون من هذا.. وسترضخ اسرائيل لحقائق جديدة تتعلق بمكانتها والكيفية التي ينظر بها العالم اليها وإيمانها بنفسها.. ومعها ايضاً من علقوا الامال في المنطقة على ان تكون اسرائيل ضامنهم وحاميهم.. هذا كله سوف يتغير.»
بعد مرور اسبوع واحد على ضربة حماس الأخيرة التي انزلتها باسرائيل رنَّت نبوءة العاروري بمصداقية لم يكن أحد ليقر له بها قبل 7 تشرين الأول 2023. ولأجل تكذيبه تتورط الدولة العبرية بأفعال وسلوكيات من المرجح ان تفضي بها الى التصادم مع أشد مصالح اعدائها حيوية، ومن هنا ستتصاعد احتمالات انفتاح رقعة الحرب الحالية الى ابعاد أوسع بكثير. اسرائيل تقف منذ الآن على شفير حرب اقليمية، وأياً يكن الاتجاه الذي ستتطور فيه الأمور، فإن التداعيات الإقليمية سيكون لها أثر تشكيلي. فما يحدث الآن من شأنه ان يغير، وبأكثر من طريقة، ليس فقط الشرق الأوسط وحده كما تعهد رئيس الوزراء الاسرائيلي «بنيامين نتانياهو» بل اسرائيل نفسها.
عن مجلة «ذي ناشنال إنتريست» الأميركية