عبدالامير المجر
ان تعرف اشياء اكثر عن العالم من حولك، فهذا يعني انك صرت تعرف نفسك اكثر .. هكذا قال لنا التلفاز، حين اقتحم حياتنا في بداية العقد الثاني من القرن الماضي، وقبله كان الراديو الذي اوصلنا ببقاع في الارض لم نكن نسمع بها حتى .. اخبار الناس ووجوههم، البيض والسود والصفر والخلاسية وغيرها، صارت تدخل البيوت من خلال احداث تعرضها تلك الشاشة السحرية يوميا .. ومن بين ما كان يصلنا ايضا، صور لمعارك في بلدان نائية وقريبة، ليست بين جيوش او على حدود الدول، بل في الشوارع والحارات والازقة، معارك بالعصي والسكاكين وبالأيدي احيانا، يقول التلفاز او التلفزيون عنهم، ان المتعاركين من ديانتين او طائفتين او عرقيتين مختلفتين، وتعنون اعلاميا بعبارة جاهزة .. اعمال عنف طائفية او عرقية ... ياللهول! يقول رجل عراقي لآخر في المقهى يجلس قربه، وهما يتابعان مايعرض على الشاشة، وشيء من الازدراء يصاحب الالم، بعد ان يذكر المذيعون اعداد الضحايا .. لكن اغلب العراقيين، وقد اعتادوا سماع اخبار كثيرة من هذا النوع، يضحكون لمنظر الصور المنقولة، لأناس يهاجمون اهدافا مدنية او اماكن عبادة، بشكل متبادل، وان كان ضحكا ممزوجا بمرارة، لان العراقيين بطبيعتهم يزدرون هذه الثقافة ويرون الشعوب التي تحصل فيها تلك الاحداث، متخلفة وتعبر عن ضعف مركب!
العراقيون شعب حضارة، وان لم يكونوا جميعهم مدنيين، أي انهم شعب اعتاد الاختلاف، فالعراق قامت على ارضه اديان ومذاهب، وامبراطوريات وممالك، وفي اروقة مدارسه القديمة صنعت المذاهب الاسلامية، كما قامت قبلها الاديان التي يقول العالم كله عنها انها الاقدم على الاطلاق. وتعددت في دولته الفتية، قبل اقل من قرن عشرات الاحزاب والمنظمات، وسواء تصارعت او اتفقت، ابتعدت عن بعضها في افكارها او اقتربت، وصلت السلطة او لم تصل، لكنها في المحصلة النهائية، تؤشر الى خصوبة العقل العراقي ورغبته في التعدد والتفاعل مع الجديد من الافكار والمثل الانسانية.. ومن هذه الرؤية التي تكرست في القرن الماضي، كان العراقيون يزدرون بشكل واضح، الصراعات الطائفية والدينية التي تأتي من اسيا او فريقيا او حتى من بعض البلدان العربية التي تهب عليها ريح صفراء بين الحين والاخر، فتجرح صورة ذلك البلد العربي في نظر اشقائه العراقيين، او هذه هي الحقيقة التي يفتخرون بها، لانهم شعب لايعرف النزاعات الطائفية، وان كانوا ضحية لها في القرون الماضية، حين استبيحت بلادهم وباتت ميدانا لصراعات الاغراب، ممن جعلوا لصراعاتهم تلك عناوين طائفية لاتمثل العراقيين ولاتعبر عنهم، او هذا ما يقوله مثقفوهم وباحثوهم، وايضا يقوله الباحثون الاجانب، ممن تناولوا تلك الاحداث.
في مشهد لم يفارق ذاكرتي، بثت قناة الشرقية قبل اعوام، تقريرا لفريق تلفازي في احدى مدن الصين، تجولت فيه فتاة عراقية بين الناس هناك، وكان هذا متزامنا تقريبا مع احداث العنف المصنوعة التي اتت بعد العام 2003 وحين التقت بشاب صيني وعرّفته ببلدها، ردد الشاب الصيني بشكل عفوي، عبارة .. اراكي.. اراكي .. أي العراق .. وهو يقوم بتمثيل دور من يمسك السلاح ويقاتل! في اشارة منه الى مشهد القتال اليومي الذي كانت الفضائيات تبثه للعالم عن العراق، وشيء من التندر بدا على سلوكه، وان لم يقصده! حينها تداعت الى ذاكرتي صور العراقيين، ممن كانوا يسخرون من تلك الاحداث التي تحصل في بلدان عدة .. هل اصبحنا شعبا يحمل في طياته تلك النزعة التي كنا نضحك منها كثيرا حين نشاهدها في التلفاز؟ اليقين الذي بداخلي يقول غير ذلك، فالعراقيون، ولا اقول ساستهم، جبلوا على تقبل المختلف فكريا وثقافيا وانهم قدوة العالم فيه، وان ماحصل مع اليهود قبل عقود، ومن ثم المسيحيين، كان مصنوعا تماما، وكانوا بيهودهم ومسيحييهم، وطوائفهم الاسلامية فيما بعد، ضحاياه، مثلما كانوا ضحايا سابقين لصراعات الاغراب على ارضهم، حين دالت الدولة العباسية التي كانت بغداد عاصمتها ومركزها، تماما كما باتوا ضحايا مرة اخرى، حين تسللت خفافيش الظلام في غفلة من الزمن الى بلادهم بعد
العام 2003 .
الصور التي صارت تبثها الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، ويظهر فيها عراقيون يهاجمون مقر هذا الحزب او تلك الصحيفة، حين يعتقدون ان هناك سلوكا او موقفا لايعجبهم، لاتعكس صورة العراقيين الذين كانوا يضحكون كثيرا منها، حين يشاهدون مثيلها من خلال التلفاز في بلدان اخرى، ولعلهم اليوم يتذكرون تلك الايام. فما الذي جرى لهم حتى باتوا يمارسون ما كانوا ينبذونه من قبل؟.. لعل اخطر ما نواجهه اليوم، هو تسييس القيم واستثمار عواطف الناس بعد تاجيجها، والاشتغال عليها لتحقيق اجندة حزبية او شخصية، باسم الديمقراطية، والانتصار لكرامة الناس، مع علمهم المسبق انهم بسرقتهم واهمالهم، صنعوا كل اشكال الخراب والتخلف الذي يعلن عن نفسه، وامام الفضائيات التي صارت تنقله الى العالم كل يوم في زمننا السخام
هذا!