هولوكوست فلسطينيَّة

الصفحة الاخيرة 2023/11/16
...

د. طه جزاع



في تقديمه لكتاب المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيليَّة" يقول محمد حسنين هيكل إنَّه ليس من المقبول إنكار مأساة المحرقة اليهوديَّة "الهولوكوست"، لأنَّ إسرائيل تستغلُّ ذلك للتعمية والتغطية على مأساة أخرى أكثر فداحة منها وقعت على عرب فلسطين "قتل ناس واغتصاب وطنهم"، لكنه يشير في ذات الوقت إلى المبالغات التي رافقت تلك المحرقة في عدد الضحايا أو اقتصارها على اليهود والتي كشفها مؤرخون ومفكرون وصحفيون غربيون، كان آخرهم غارودي نفسه.

يورد غارودي في كتابه الذي تعرض بسببه إلى حملة صهيونيَّة شرسة أوصلته إلى المحاكم، مجموعة من الأساطير التي اتخذت ذريعة لقيام إسرائيل، منها الأرض الموعودة لليهود في فلسطين، وشعب الله المختار، وأرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ثم الأسطورة الحديثة التي نشأت خلال الحرب العالميَّة الثانية القائمة على الادعاء بأنَّ النازيَّة قد أبادت وأحرقت في أفرانها ستة ملايين يهودي، ما أدى إلى شعورٍ بالذنب وتعاطفٍ غير مسبوق من قبل الحكومات والشعوب الغربيَّة، وقد وَضَفت الصهيونيَّة ذلك التعاطف الواسع لتعزيز ودعم دعوتها إلى إنشاء وطنٍ قومي لليهود، يجمعهم من الشتات، ويحميهم من تكرار حملات الإبادة الجماعيَّة كشعبٍ ضعيفٍ مُشتَتٍ ومنبوذٍ ومُلاحَقٍ ومُضطَهَد.

"الهولوكوست" واقعة حقيقيَّة ليس من المقبول إنكارها على رأي هيكل، لكنَّها ضُخمت كثيراً، وتمَّ توظيفها للدفع باتجاه إبادة شعبٍ آخر لا ذنب له في ما حدث، واغتصاب أرضه بالقوة، وتحويله من مواطن إلى لاجئ. ولذلك فإنَّ غارودي يشير إلى الصحفي والروائي دوغلاس ريد الذي أثار ضجة حين أصدر كتاباً قارن فيه بين إحصائيتين لعصبة الأمم المتحدة، والأمم المتحدة قبل الحرب وبعدها، وقدر بأنَّ المحرقة لم يزد ضحاياها على ما بين ثلاثمئة ألف وأربعمئة ألف شخص، كما أنَّ المحرقة لم تقتصر على اليهود، إنما نالت أكثر منهم الألمان أنفسهم، والروس والبولنديين وحتى الغجر "ثم الفلسطينيين". ولقد تعرض دوغلاس ريد كما يذكر هيكل لحملة جامحة واختفى كتابه من المكتبات، واختفى المؤلف نفسه من الحياة الصحفيَّة والعامة كلها. ودَفَنه النسيان حياً!. كذلك يشير غارودي إلى المؤرخ البريطاني دافيد إيرفنج الذي راح يبحث ويتقصى عن حقيقة الإبادة في الوثائق التي حصل عليها الجيش السوفييتي أثناء زحفه على بولندا وطرد الجيش الألماني عام 1944، وكان ثمانون في المئة من اليهود يعيشون في بولندا، وفيها حدثت أهم المحارق النازيَّة لليهود، لكنه تعرض للمضايقة والضرب بعد أنْ أشيعَ بأنَّه أوشك للوصول إلى حقيقة المحرقة.

"الهولوكوست" الفلسطينيَّة في غزة لا تحتاج إلى شهود لكي يثبتوا حقيقتها، وأرقام ضحاياها، إنَّها "مقبرة أطفال" وفق تعبير الأمين العام للأمم المتحدة، ووقائعها تجري في كل ساعة تحت نظر العالم وسمعه، وعلى الهواء مباشرة.