مظفر النواب صانع التراكيب الصادمة

ثقافة شعبية 2023/11/16
...

 سعد صاحب 

يعد النواب واحداً من الشعراء الكبار المبدعين المتميزين بكتابة أشعار استثنائيَّة متطورة، وأن ما قدمه هذا المبدع الماهر من قصائد ذات جُملٍ سحريَّة تكهربُ السامع، ومن فضاءات شاعريَّة تهتمُّ بالجمالي والدلالي والفلسفي والصوري والإشاري، يعد بمثابة القفزة النوعيَّة في تاريخ الشعر الشعبي الحديث.
لا سيما في الصياغة المستجدة واللغــة المراوغــة والتكنيـك الواعـي والبــلاغة الفاعلـة، وانتقــاء العبـارات الغامضـة واختيار الموضوعات الغريبة:

(الروح روحي وبطلت والويت اذنها/ شرد اكلك يا حزنها/ بطليت/ طلسم فكيت سحرك وانتهيت/ ما اجذبك اني ناسيك وبجيت/ وانه حاير مثل المحجر على الريح انتجيت/ لا متت انته ولا انه احتييت).


غزل

يكتبُ في الغزل بطريقة مشوقة، مستثمراً مفردات الطفولة المحببة، خصوصاً مفردة (الزعرور) المرتبطة بتكوينات الذاكرة الأولى، وكل ما يبدعه من صورٍ فائقة الجمال، هو استجابة للشعور الأولي الماكث في فصوص الدماغ، ما يسمى بعلم النفس (الإحساس الخام) الذي حوله النواب الى منجمٍ للإبداع:

(جنة خدك مر على الزعرور/ وشال الفي وحطه بوسط حجري/ والحواجب جنها مطرت كبل ساعه/ ورسمت النومه اعلى صدري).


بهجة

ترك النواب الفائض عن الحاجة، وراح يدون الفظيع الموجود في الشعر الصادم، من أجواءٍ ملتبسة وهمومٍ خاصة ومواقف فرديَّة، وعلاقات إنسانيَّة معقدة وحالات عشقٍ تراجيديَّة وشخصياتٍ منعزلة، لا تشعرُ ببهجة الحب ولا سعادة الحياة، ولا تحاول الاندماج بواقعٍ سلبي، أو الدخول في فوضى الوجود، الخالية من كل أثرٍ باسل:

(أمس طشيتك على الايام صم نسيان/ سميتك حزن وصيت نفسي/ من معزتك تنسى اسمك تترك السبوره سوده/ مثل امس تمحيلي رسمك).

استيقاظ

الشاعر يعيشُ حالات اهتزازٍ عجيبة للأعصاب، وكل الأشياء البعيدة تقتربُ في لحظة استيقاظ داخلي متوهج، هو الباعث للكثير من الاتصالات المنسيَّة، بسبب المرض والنسيان والشيخوخة وتقادم الأفكار المماثلة، وهذا الذي يحدث بلا تحفيزٍ أو اتفاق، يعبر عنه بطريقة الوجع البدائي، المثار من قبل العالم الخارجي ومن الاحداث المجاورة، فتجتمع الانفعالات كلها في قصيدة 

ممتعة:

(كلنه الگمر كفة ليل / تنكل ذهب للبصره/ كلنه نجمة الغبشه/ اشتهت نهران اهلنه وصبحت خضره/ كلنه بنادم الخلينه كل العمر بشليله/ نفضنه وراح لهله يمشط بشعره).


أجراس

لغة النواب لها كيانها الخاص وروحها المرهفة وخطاها الرشيقة، وألفاظها الخالية من الشوائب، وتراكيبها الجديدة على الذائقة، المأخوذة من أعماق الهور ومن زغاريد طيوره الحرة، المتمردة على الموت وقساوة التضاريس، وحروفها الراقصة مثل رقصة الأجنحة، حينما تراوغ الصياد والرصاص والكمين والشباك والخطر، فهي ليست مباشرة وإنْ تبدو كذلك، هي عالمٌ متداخلٌ من الأصوات والموسيقى والأجراس والروائح، وكون غريب من الزقزقة والعواء والهديل والزئير والحفيف والنعيب والرفيف والسكون والنعي والهلاهل:

(والحـاجـــب نســـر فـــارش جناحينه بوكاحه يطير/ منهو هناك/ كبرت عينه كبرت لمت الهور الكصب/ الطيور والعكيد 

والخنزير).