محمد غازي الأخرس
ويقول البغدادي عن الغنى حين يستر العيوب: أكرع بفليساته، بمعنى أنَّ فلاناً وإنْ كان أقرع، فله أنْ يفعلَ ما يشاء ما دام جيبه عامراً بالفلوس. وكي لا يفهمنا القرعان خطأ، نقول إنَّ الأمثال تختزن أفكار الناس وقيمهم بغض النظر عن إيماننا أو رفضنا لها. وفحوى المثل أنَّ المال يستر العيوب، ويحول القبيح إلى حسن، و"الأغم" من الناس، إلى "خير".
في البصرة يتداولون المثل نفسه بتفصيلٍ آخر: گالوا للاكرع تاكل حلاوة؟ گللهم آكل بكريشاتي، ولا أدري، وبالتالي، من أخذ المعنى والمبنى من الآخر، العراقيون أم المصريون، فالأخيرون يقولون: الأقرع بياكل حلاوه؟ قال بفلوسه، وهو رديف قولهم: قرشك بجيبك ساتر عيبك، ومرادفه العراقي: فلوسه بعبه والناس تحبه، وهو يشابه قولهم هنا وهناك: الرجل ما يعيبه إلا جيبه.
الحال أنَّ هذا النسق الراسخ في لا وعي المجتمع إنَّما يعكسُ نفاقاً عجيباً يسودُ دائماً، وهو أنْ تقاس قيمة المرء بمقدار ما يملك من مال، فالناس تميل "إلى من عنده مال"، و"إلى من عنده ذهب"، ولطالما تكررت الفكرة لدرجة أنَّ العباس بن الأحنف يجزم بأن: يمشي الفقير وكل شيء ضده.. والناس تغلق دونه أبوابها.. وتراه ممقوتاً وليس بمذنب.. ويرى العداوة لا يرى أسبابها، ويصلُ الأمر إلى أنه: حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروةٍ .. خضعَت لديه وحرّكت أذنابَها.. وإذا رأت يوماً فقيراً عابراً.. نبحت عليه وكشرت أنيابها.
هو لا شكّ مجازٌ شعريٌ، لكنه مجاز حقيقيٌ والله، أمي مثلاً كانت تقول بيقين المجرب إنَّ: اللي ما بجيبه فلس ما يسوه فلس، والأمر، كما هو راسخٌ في لا وعي الناس: الغني يغنوله والفقير يعفطوله.
وفي قصة مأثورة، يحكون عن رجلٍ معدمٍ دعي يوماً إلى وليمة عامرة، وما إنْ لاحظ أصحاب البيت أسماله حتى طردوه معتقدين أنَّه طفيلي، فحزَّ ذلك بنفسه وقرر استبدال ثوبه الخلق بجبة توحي بغنى صاحبها. خرج صاحبنا وتدبر أمره، ثم عاد إلى المنزل الذي طُرِدَ منه وهو يرتدي جبة تخلب الألباب. هنا تلقاه الذين طردوه قبل حين بالترحاب معتقدين أنَّه أحدُ تجار البلد. فجلس الفقير حزيناً منكسراً، وصار يمسك كم جبته ويغمسه بصحن المرق ويقول له: كل يا هدم.. كل يا هدم. يعني أنَّ من حظى بالتقدير وأجلس في صدر المجلس هو ثوبه وليس شخصه، وفي هذا استعارة بليغة للمرض الذي يشيعُ في المجتمع، وهو اعتماد المظهر لا الجوهر في تقدير الناس. تراهم يعاملون الفقير باحتقارٍ في حين يبجلون الغني بغض النظر عن تفاهة جوهره.
يحدث ذلك في الحياة والموت، بدليل أنَّ جنازة الزنكين غالباً تكون عامرة بالمشيعين، بينما يذهب الفقير إلى غياهب العالم السفلي من دون مشيعين. يقول المصريون في ذلك: الغني مات شدوا الخُبَر، والفقير مات اكفوا عل الخبر، والخبر الأولى هي الملاءة السوداء التي تلبس في الحزن. ويقولون أيضاً: الغني شكته شوكه قامت البلد كلها في دوكه، والفقير قرصه ثعبان قالوا كان فين داير محتار، والدوكه مفردة يستخدمها المصريون للدلالة على الفوضى والاختلاط، يقولون: ما تودينيش في دوكه، وأصل الاستعارة يرجع لفعل الدوك، أي دق الشيء وسحقه وطحنه، والمِدْوَك حجر يسحق به الطيب، تماماً كما تسحق القيم الاجتماعيَّة الفقير ولو كان من أعظم الناس خلقاً، في حين يحظى صاحب المال بالمجد، فإنْ سألوه: أشو تاكل حلاوة؟
أجاب وهو يتمطق: أكرع بفليساتي!